معاهدة فرساي - ويكيبيديا
النوع | |
---|---|
جزء من | |
نسبة التسمية | |
التوقيع | |
مناطق الاختصاص | |
الموقعون | القائمة ... الولايات المتحدة — الإمبراطورية البريطانية — فرنسا — إيطاليا — اليابان — جمهورية فايمار — المملكة المتحدة — الجمهورية الفرنسية الثالثة — مملكة إيطاليا — إمبراطورية اليابان — بلجيكا — بوليفيا — البرازيل — هايتي — غواتيمالا — هندوراس — اليونان — جمهورية الصين — مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين — كوبا — ليبيريا — نيكاراغوا — بنما — بيرو — الجمهورية البولندية الثانية — البرتغال — مملكة رومانيا — سيام — الأوروغواي — مملكة الحجاز — الجمهورية التشيكوسلوفاكية الأولى — الإكوادور |
الإيداع | الحكومة الفرنسية |
اللغة |
جزء من التسلسل الزمني لما قبل الحرب العالمية الثانية وأسباب الحرب العالمية الثانية |
أحداث أدت إلى الحرب العالمية الثانية |
---|
معاهدةُ ڤرساي (بالإنجليزية: Treaty of Versailles)، (بالفرنسية: Traité de Versailles)، (بالألمانية: Versailler Vertrag) أو «صلح ڤرساي»، أو «معاهدةُ السلامِ بينَ القوى المتحالفةِ والمرتبطةِ معها وبينَ ألمانيا» بحسبِ الاسمِ الرسمي، هي المعاهدةُ التي أسدلتِ الستارَ من جانب القانونِ الدوليِّ على أحداثِ الحرب العالمية الأولى. وُقِعَ عليها بعدَ مفاوضاتٍ شاقّةٍ وعسيرةٍ استمرَّت ستةَ أشهرٍ هي وقائعُ مؤتمرِ باريسَ للسلامِ (دخلتِ الهدنةُ العامةُ مع ألمانيا حيز التنفيذ في الساعة الحادية عشرة من ضحى يوم 11 /11 /1918). وقَّعَ الحلفاءُ المنتصرونَ في الحرب اتفاقيَّاتٍ منفصلةً معَ دولِ المركزِ الخاسرةِ وهي الرايخ الألمانيّ، والإمبراطورية النمساوية-المجرية، والدولة العثمانية، ومملكةُ بلغاريا.[1] سُلمَتِ الصياغةُ النهائيةُ للنصّ الذي تمَّ الاتفاقُ عليهِ إلى الحكومةِ الألمانية في 7 مايو/أيار 1919 للموافقةِ عليِهِ من قِبَلِها، وجرتْ مراسمُ التوقيعِ في 28 يونيو/حزيران 1919م. تضمّنَتِ المعاهدةُ الاعترافَ الألمانيَّ بالمسؤوليةِ الكاملةِ عنِ الحرب ما أثارَ حنقاُ واسعاً داخلَ ألمانيا فقدِ اعتبرَ تنازلاً عن الكرامةِ الوطنيّةِ،[2] فألمانيا وإنْ كانَ عليها نصيبُها من المسؤوليّةِ إلا أنَّه ليستِ المسؤوليّةُ كاملةً. لقدْ كانَ بنداً مثيراً لكثيرٍ منَ الجدلِ: «إقرارُ ألمانيا وحلفائِها بمسؤوليّتِهم عنِ التسببِ في جميع الخسائرِ والأضرارِ» التي وقعتْ أثناءَ الحربِ (تضمنتِ المعاهداتُ معَ دولِ المركزِ الأخرى موادَّ مماثلةً). أضحت هذهِ المادةُ (المادة 231) تُعرفُ باسمِ «بندِ ذنبِ الحربِ».
تمخّضتِ المعاهدة عن تأسيسِ عصبة الأمم التي أريدَ منها الحيلولةُ دونَ وقوعِ نزاعٍ مسلّحٍ بينَ الدولِ كما حدثَ في الحرب العالمية الأولى، ونزعِ فتيلِ النزاعاتِ الدوليةِ قبلَ انفجارها. ألزمتِ المعاهدةُ ألمانيا بخسارةِ بعضٍ من أراضيها وتقديمِ تنازلاتٍ إقليميّةٍ واسعةٍ، وتقاسمتِ الدولُ المنتصرةُ الرئيسةُ مستعمراتِها في إفريقيا والمحيط الهادي. وخسرتِ الدولة العثمانية -كذلك- أراضيَ شاسعةً في آسيا وانتهت إمبراطوريّتها نهائيّاً، وتوزعت ممتلكاتُ الإمبراطورية النمساوية المجرية على عدةِ بلدانٍ في وسطِ القارةِ وشرقها وذلكَ بموجبِ معاهداتٍ لاحقةٍ لمعاهدةِ ڤرساي.
فيما يتعلقُ بالقيودِ العسكريَّةِ على ألمانيا فرضتِ المعاهدةُ ضوابطَ وقيوداً صارمةً جداً على الآلةِ العسكريةِ الألمانيةِ بغيةَ منعِ الألمانِ من إشعالِ حربٍ ثانيةِِ، فنصّت على تجريدِ الجيشِ الألمانيّ من السلاحِ الثقيلِ، وإلغاءِ نظامِ التجنيدِ الإلزاميِّ المعمولِ به، والاحتفاظِ بمئةِ ألفِ (100,000) جنديٍّ عاملٍ فقط.[3] بما فيه الالتزامِ بـخمسةَ عشرَ ألفَ (15,000) عنصرٍ عاملٍ (ما بين ضباطٍ وجنود) في البحريَّةِ، وعدمِ بناءِ قوّةٍ جويّةٍ، وتحديدِ السفنِ الحربيَةِ بعددٍ محدودٍ، ومنعِها بتاتاً من بناءِ غوّاصاتٍ حربيَّة.[4] كما فُرِضَ عليها ألاّ يحقَّ البقاءُ في الخدمةِ العسكريةِ أقلَّ منْ اثنيْ عشرَ (12) عاماً للجنودِ وخمسةٍ وعشرينَ (25) عاماً للضبّاطِ بحيثُ يغدو الجيشُ الألمانيُّ قائماً على الكفاءاتِ العسكريّةِ غيرِ الشابّة.[5]
ثمَّ جاءَ دفعُِ التعويضاتِ لبعضِ البلدانِ. حُدّدت هذهِ التعويضاتُ بمبلغِ تسعةٍ وستينَ ومئتيْ (269) مليارِ ماركٍ ألمانيٍّ ذهبيٍّ، ثمَّ خُفّضَ عدةَ مراتٍ فيما بعدُ، وبحسبِ خبراءٍ اقتصاديّينَ فإنها -رغمَ التخفيضاتِ- بقيت مغالىً فيها.[6] ونتجَ عن ذلكَ أنْ أثقلتِ الديونُ الاقتصادَ الألمانيَّ المنهَكَ بسببِ الحربِ وتبعاتِها مما رفعَ درجةَ الغضبِ والغليانِ الشعبيِّ، وأسهمَ في النهايةِ في اندلاعِ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ.
كانَ الاقتصاديُّ البريطانيُّ اللامعُ جون مينارد كينز (1883-1946م) -عضوُ الوفدِ البريطانيِّ إلى مؤتمرِ پاريسَ للسلامِ- بعيدَ النظرِ عندما وصفَ معاهدةَ ڤرسايَ بعبارتهِ الشهيرةِ: «سلامٌ قرطاجيٌّ» (إشارةً لمّاحةً منهُ إلى تدميرِ الرومان قرطاجةَ كليّاً؛ لقد حققوا السلامَ، ولكن على أنقاضِ دولة)، واعتبرَ أن من شأنِها أنْ تدمرَ ألمانيا اقتصاديّاً، وأنها ذاتُ نتائجَ عكسيّةٍ. وقد بقيَ هذا الأمرُ موضوعَ أخذٍ وردٍّ دائمين من قبلِ المؤرخينَ والاقتصاديّينَ على حدٍّ سواء.
من ناحيةٍ أخرى رأت شخصياتٌ بارزةٌ من الحلفاءِ المعاهدةَ من وجهةِ نظرٍ أخرى، فقد انتقدها ماريشال فرنسا فرديناند فوش (1851-1929م) -القائدُ الأعلى لجيوش الحلفاءِ الذي وقَّعَ على الهدنةِ مع الألمانِ- لأنها تُعامل ألمانيا معاملةً متساهلةً للغاية، ووصفها بقولهِ: «هذا ليسَ سلاماً، إنّهُ فقط هدنةٌ لمدةِ عشرينَ عاماً»، ما اعتبرَ -فيما بعدُ- نبوءةً غيرَ مسبوقةٍ. ويُروى أنَّ صحافيّاً سألَ جورج كلمنصو رئيسَ الوزراءِ الفرنسي (1917-1920م) عن سببِ عدائِهِ للألمانِ -وقد اشتهرَ بتصلبهِ الشديدِ أثناءَ المفاوضاتِ- وقالَ له: «هلْ ذهبتَ يوماً إلى ألمانيا ورأيتَ الألمانَ؟»، فأجابَ: «لا، ولكني خلالَ حياتي رأيتُ الألمانَ مرتينِ يأتونَ إلى فرنسا» (إشارةً منه إلى الحربِ الفرنسيةِ-الپروسيةِ (70-1871م) عندما احتل الألمان باريس، والحرب العالمية الأولى)، وسواءً كانتِ الروايةُ صحيحةً أم صيغت على سبيلِ «المُضحك-المُبكي» فإنها تصورُ الروحَ والجِواءَ التي جرت فيها المفاوضاتُ التي أدّت إلى معاهدةِ ڤرساي.[هامش 1]
سمّيتِ المعاهدةُ معاهدةَ فرسايَ على اسمِ المكانِ الذي جرت فيه مراسمُ توقيعِها النهائي وهو قاعةُ المرايا الشهيرةُ في قصر فرسايَ التاريخيِّ في ضواحي باريسَ، لكنَّ معظمَ المفاوضاتِ جرت في باريسَ، وعُقدتِ اجتماعاتُ «الأربعةِ الكبارِ»؛ بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولاياتِ المتحدةِ بشكلٍ عامٍّ في مقر وزارةِ الخارجيةِ الفرنسيّةِ (بالفرنسية: Quai d'Orsay).
المساق التاريخي
[عدل]إيريك هوبزباوم: عصر التطرفات، القرن العشرون الوجيز/ ص. 68.
الهدنة
[عدل]خريفَ العام 1918 شرعت دول المركز في الانهيار.[7] بدأت معدلات الفرار داخل الجيش الألماني بالازدياد، وخفضتِ الضربات على المدنيين بشكلٍ كبير من الإنتاج الحربي.[8][9] على الجبهة الغربية شنت قوات الحلفاء هجوم «مئة اليوم» وهزمت جيوش الغربِ الألمانيّةِ بشكلٍ حاسمٍ.[10] تمرد بحارة البحريةِ القيصريةِ الألمانيّةِ في كيل وسرعان ما تطور الأمر إلى اندلاعِ انتفاضاتٍ شعبيةٍ في ألمانيا ما أصبح يُعرف باسم الثورة الألمانية (18–1919).[11][12] أُعلنتِ الجمهورية فيما القيصر في زيارةٍ إلى هولندا، وأرسل له المستشار (رئيس الوزارة من الحزب الديمقراطي الاشتراكي) طالباً منه التنازل، وعندما منحته الحكومة الهولندية بحفزٍ من قريبته الملكة فلهلمينا اللجوءَ، كانتِ القيصرية قد أضحت شيئاً من الماضي. حاولتِ الحكومة الألمانية التوصل إلى تسويةٍ سلميّةٍ على أساس نقاط ويلسونَ الأربع عشرة، وأكدت أنها ستوقع الهدنة على هذا الأساس. عفب المفاوضات وقع الطرفان في الساعة الخامسة فجراً هدنةً (بعد يومين من تنازل الفيصر) دخلت حيز التنفيذ في اليوم نفسه الساعة الحادية عشرة ضحَى يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني بينما القوات الألمانية لاتزال متمركزةً في فرنسا وبلجيكا.[13][14][15]
شهدتِ الهدنة بعد انتهائها في (13 /12 /1918) ثلاثة تمديداتٍ حتى دخول معاهدة فرساي حيز التنفيذ؛ الأولى (13 /12 /1918 - 16 /1 /1919)، والثانية (16 /1 /1919 - 16 /2 /1919)، والثالثة (16 /2 /1919 - 10 /1 /1920). فرضتِ الهدنة إطلاقَ جميع الأسرى، وعودةَ الجيش الألماني في الشرق إلى حدودِ ما قبل الحرب، وتسليمَ معداتٍ حربيةٍ، وإلغاءَ معاهدتَيْ برست ليتوفسك وبوخارست لعام 1918، كما اشترطت إجلاءً فورياً للقوات الألمانيةِ من بلجيكا ولوكسمبورچ والأراضي الفرنسية المحتلة في غضون خمسةَ عشرَ يوماً.[16] علاوةً على احتلال منطقة الراينلاند من قبل الحلفاء. أواخرَ العامِ 1918 دخلت قوات الحلفاءِ ألمانيا، وبدأتِ احتلالها، وأسست «مفوضية راينلاند العليا المتحالفة».[17]
الحصار
[عدل]اعتمدت ألمانيا وبريطانيا على واردات المواد الغذائية والمواد الخام التي توجب شحن معظمها عبر الأطلسي. كان حصار ألمانيا (14-1919) عمليةً بحريةً قام بها الحلفاء لوقف توريد المواد الخام والمواد الغذائية لدول المركز. كانت عمليات بحريّةِ القيصريّةِ الألمانيّةِ مقتصرةً بشكلٍ أساسيٍّ على الخليج الألماني، واستخدمتِ المغيرين التجاريين [الإغارات على السفن التجارية] والحرب بواسطة الغواصات غير المقيدة [لأنها تستطيع تجاوز نطاق الحصار] لعمل حصارٍ مضاد. صرح المجلس الألماني للصحة العامة في ديسمبر/كانون الأول 1918 أن 763 ألف مدنيٍّ ألمانيٍّ ماتوا أثناء حصار الحلفاء، على أن دراسةً أكاديميّةً عامَ 1928 قدرت عدد الموتى بـ424 ألفاً.[18]
دام الحصار ثمانية أشهرٍ بعد توقيع الهدنةِ في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، وفي العام 1919 جرى التحكم في واردات المواد الغذائية من قِبَلِ الحلفاء حتى وقعت ألمانيا معاهدة فرساي.[19] في مارس/آذار 1919 أبلغ ونستون تشرشل -وزير شؤون الحرب والطيران- مجلسَ العموم أن الحصارَ المتواصل كان ناجحاً وأن «ألمانيا قريبة جداً من المجاعة».[20] من يناير/كانون الأول 1919 إلى مارس/آذار 1919 رفضت ألمانيا مطالبَ الحلفاء بتسليم سفنها التجارية إلى موانئ الحلفاء لنقل الإمدادات الغذائية. اعتبر البعض أنه بما أن الهدنة وقفٌ مؤقتٌ للحرب فإن اندلاع القتال مرةً أخرى سيؤدي للاستيلاء على الأسطول الألماني.[21] أضحى الوضع يائساً شتاءَ العام 1919 حتى وافقت ألمانيا أخيراً على تسليم أسطولها التجاري في مارس/آذار، ثم سمح الحلفاء باستيراد مئتين وسبعين (270) ألف طنٍّ من المواد الغذائية.[22][هامش 2]
جادل المراقبون -من ألمانٍ وغيرهم- بأن أشهر الحصار هذه كانتِ الأكثرَ رَهَقاً على المدنيين الألمان[23] على الرغم من استمرار الخلاف حول مدى ومن هو المخطئ حقاً.[24][25][26][27][28] وفقاً للدكتور «ماكس روبنر» لقيَ مئة ألف مدنيٍّ ألمانيٍّ حتوفهم بسبب استمرار الحصار بعد الهدنة.[29] كما أصدر عضو حزب العمال والناشط المناهض للحرب «روبرت سميلي» في المملكة المتحدة بياناً في يونيو/حزيرانَ 1919 يدين استمرار الحصار زاعماً أن مئة ألفِ مدنيٍّ ألمانيٍّ شهدوا نهاية حياتهم نتيجة ذلك.[30][31]
شروط السلام
[عدل]صوّت الكونجرس الأمريكي على إعلان الحرب على ألمانيا في السادس من أبريل/نيسان من العام 1917.[32][هامش 3] كان الرئيس وودرو ويلسون في رؤياه يهدف إلى فصل الحرب عن الخلافات والطموحات القومية، وفي الثامن من يناير/كانون الثاني 1918 عرض ويلسون النقاطَ الأربعَ عشرةَ في خطابٍ له على الكونجرس، حيث وُضعتِ الخطوط العريضة لسياسة «التجارة الحرة»، والاتفاقيات المفتوحة، والديمقراطية، وفي حين لم يُستخدم مصطلح «تقرير المصير» (بالإنجليزية: self-determination) إلا أنه جرى افتراضه، كما دعتِ النقاط الأربعَ عشرةَ إلى إنهاءِ الحرب عن طريق التفاوض، ونزعِ السلاح الدولي، وانسحابِ دول المركز من الأراضي المحتلة بما فيها آسيا العربية، وإنشاءِ دولةٍ بولنديةٍ، وإعادةِ ترسيمِ الحدودِ في أوروپا على أسسٍ عرقيةٍ [أي قوميةٍ]، وتشكيل عصبة الأمم؛ هيئةٍ دوليةٍ لضمان الاستقلال السياسي وسلامة أراضي جميع الدول.[33] ودُعيَ إلى سلامٍ عادلٍ وديمقراطيٍّ غير قابلٍ للتسوية في موضوع ضمِّ الأراضي. استندت هذه النقاطُ الأربع عشرة [هامش 4] إلى البحث الاستقصائي حول الموضوعات التي من المحتمل أن تثار في مؤتمر السلام المتوقع، والذي أجراه فريق دُعي «لجنة التحقيق» برئاسة مستشار السياسة الخارجية للرئيس ويلسون «إدوارد إم هاوس».[34]
شُكلتْ لجنة التحقيق (بالإنجليزية: The Inquiry) (أو لجنة الاستعلامات في بعض المراجع) كمجموعةٍ بحثيةٍ في سبتمبر/أيلول من العام 1917م من قبل الرئيس ويلسون لإعداد تصوراتٍ لمفاوضات السلام عقب الحرب. تألفتِ المجموعة من خمسين ومئة (150) أكاديميٍّ برئاسة المستشار الرئاسي إدوارد هاوس، وإشراف الفيلسوف سيدني ميزس، ورئيس البحوث والتر ليبمان (استبدل به لاحقاً «آيسايا بومان»). اجتمعتِ اللجنة في مكتبة نيويورك العامة، ولكن اجتماعاتها نقلت فيما بعد إلى مكاتب «الجمعيّة الجغرافيّة الأمريكيّة» في نيويورك بعد انضمام بومان.[35]
انضم عشرون وواحد (21) من أعضاء لجنة التحقيق إلى «اللجنة الأمريكيّة الكبرى للتفاوض على السلام»، أو الوفد الأمريكي إلى مؤتمر باريس للسلام الذي بدأ في 18 يناير/كانون الثاني من العام 1919م.[35]
الجائحة
[عدل]نهايةَ العام 1917 وبدايةَ 1918 رُصد مرضٌ سريع العدوى للغاية سرعان ما تحول لما دُعي بـ«جائحة إنفلونزا 1918» (بالإنجليزية: 1918 Influenza Pandemic)، وقُدّر ضحاياه ما بين خمسين ومئة مليون [36] موزعين على أربع موجاتٍ (بين فبراير/شباط 1918 ومارس/آذار 1920) كان أكثر من نصفهم بين 20-40 سنة، و99 ٪ منهم دون الخامسة والستين[37] [38] ما جعله أفتك وباءٍ في التاريخ،[هامش 5] وخفّض متوسط العمر المتوقع حول العالم (في الولايات المتحدة بـ12 عاماً لسنة 1918). حسبَ دراسةٍ عامَ 2007 للمجلات الطبية من تلك الفترة فإن الڤيروس لم يكُ أشدَّ فتكاً من سلالات الإنفلونزا السابقة، لكن تبعاتِ الحرب من ضعف المناعة -بسبب التوتر النفسي والتعرض للغازات الكيميائية وسوء التغذية-، والمشافي والمخيمات الطبية المزدحمة، وحظائر الخنازير -التي تحول الڤيروس فيها منتقلاً من الطيور- لإطعام الجنود بالقرب من المعسكراتِ المكتظة أصلاً، وسوء النظافة الصحية جميعها متضافرةً عززت سرعة العدوى ومنها العدوى الجرثوميةِ الإضافيةِ التي أودتْ بمعظم الضحايا.[39][40] [هامش 6] وتعتبر بعضُ المراجع الوباءَ أحدَ الأسبابِ في ترجيح كفةِ قواتِ الحلفاءِ، وعاملاً في نجاحهم في المناطق الوسطى وفوزهم في الحرب.[41] ذلك كله بينما كان السياسيون يتنافسون في إظهار براعاتهم الخطابية والجدلية بدلاً من التعجيل في إقرار السلام والاستقرار.
المفاوضات
[عدل]بدأت المحادثات بين الحلفاء لتأسيس موقفٍ تفاوضيٍّ مشتركٍ في 18 يناير/كانون الثاني 1919 في قاعة Salle de l'Horloge بوزارة الخارجية الفرنسية في باريس.[42] شارك في البداية سبعون مندوباً من عشرين وسبع (27) دولٍ في المفاوضات،[43] واستبعدت روسيا بسبب توقيعها على اتفاق سلامٍ منفصلٍ (معاهدة بريست ليتوفسك)، وانسحابها المبكر من الحرب. علاوةً على ذلك استُبعد المفاوضون الألمان لحرمانهم من فرصة تقسيم الحلفاء دبلوماسياً.[44]
اجتمع «مجلس عشرةٍ» Council of Ten في البدء رسمياً لتقرير شروط السلام (تألف من مندوبَيْن عن كلٍّ من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا واليابان)، ثم استبدل به «مجلس الخمسة» الذي تشكل من وزراء خارجية هذه البلدان لمناقشة القضايا الفرعية. كوّن رئيس الوزراء الفرنسي جورج كلمنصو، ورئيس الوزراء الإيطالي ڤيتوريو إيمانويل أورلاندو، ورئيس الوزراء البريطاني ديڤيد لويد جورج، ورئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون «الأربعة الكبار» (في وقتٍ ما أصبحوا «الثلاثة الكبار» بعد الانسحاب المؤقت لڤيتوريو أورلاندو). اجتمع هؤلاء الأربعة خمساً وأربعين ومئة (145) جلسةٍ مغلقةٍ لاتخاذ جميع القرارات الرئيسة، والتي صادق عليها المجلس بأكمله لاحقاً. حضرتِ القوى الصغرى «المؤتمر العام» الأسبوعي الذي ناقش القضايا في منتدىً عامٍّ، لكنها لم تتخذ قراراتٍ. شكل هؤلاء الأعضاء أكثر من خمسين لجنةً قدمت توصياتٍ مختلفةً أُدمج العديد منها في النص النهائي للمعاهدة.[45][46][47]
الأهداف البريطانية
[عدل]عانت بريطانيا من أعباءٍ ماليةٍ باهظةٍ مع دمارٍ ماديٍّ ضئيلٍ أثناء الحربِ،[48] وكانَ الائتلاف البريطانيُّ[هامش 7] زمنَ الحربِ قد أعيدَ انتخابُهُ نهايةَ العامِ 1918م من خلال ما دعي بقسيمة الائتلافِ (بالإنجليزية: Coupon election)، مع التأكيدِ على سياسةِ الضغطِ على الألمانِ «حتى آخر قطرة».[49][50] فضّلَ الرأيُ العامُّ البريطانيُّ «سلاماً عادلاً» من شأنهِ أنْ يُجبرَ ألمانيا على دفعِ تعويضاتٍ إضافةً إلى إجهاضِ قدرتِها على تكرارِ عدوانِ الحربِ، وذلكَ بالرغمِ من أنَّ «الرأيَ العامَّ الليبراليَّ» كانَ أكثرَ ميلاً نحو فكرةِ «ويلسونَ» عن سلام المصالحة.[51][هامش 8]
عارضَ رئيسُ الوزارةِ البريطانيةِ لويد جورج فكرةَ الانتقامِ، وحاولَ التوفيقَ بينَ مطالبِ كلمنصو ونقاطِ ويلسونَ الأربعَ عشرةَ، لأنهُ سيتعينُ على أوروبا في النهايةِ التصالحُ معَ ألمانيا.[52] أرادَ لويد جورج شروطاً للتعويضِ لا تشلُّ الاقتصادَ الألمانيَّ كي تبقى ألمانيا قوةً اقتصاديةً قابلةً للحياةِ وشريكاً تجارياً،[48][49][52] ثمَّ -ومن خلالِ المطالبةِ بإدراجِ معاشاتِ الحربِ البريطانيّةِ وتعويضاتِ الأراملِ ضمن التعويضاتِ الألمانيّةِ- ضمنَ أنَّ مبلغاً محترماً سيذهبُ إلى الخزينةِ البريطانية.[53]
كانَ لويد جورج يهدفُ إلى الحفاظِ على توازن ميزان القوى الأوروبي[هامش 9] وذلكَ لإحباطِ أيِّ محاولةٍ فرنسيةٍ لترسيخِ فرنسا كقوةٍ أوروبيةٍ مهيمنةٍ، وبهذا المعنى فإن إحياءَ ألمانيا سيكونُ بمنزلةِ ثقلٍ موازنٍ لفرنسا ورادعٍ لروسيا البلشفية. أرادَ لويد جورج أيضاً تحييدَ البحريةِ الألمانيةِ لإبقاءِ البحريّةِ الملكيّةِ البريطانيّةِ أكبرَ قوةٍ بحريةٍ في العالمِ، وتفكيكَ الإمبراطوريةِ الاستعماريةِ الألمانيةِ مع محاولةِ حيازةِ العديدِ من مستعمراتِها باسمِ نظامِ الانتداب تحتَ مظلةِ عصبة الأمم، وهوَ النظامُ الذي عارضته دولُ الدومينيون[52] وفرنسا.
الأهداف الفرنسية
[عدل]فقدت فرنسا نحوَ ثلاثمئةِ ألفٍ ومليونِ جنديٍّ كان ربعهم (25 ٪) من الرجالِ ممّن تراوحَت أعمارهم بينَ الثامنة عشرةَ والثلاثين عاماً، وأربعمئةِ ألفِ مدنيٍّ. كما تعرضت لخسائرَ ماديّةٍ أكثرَ من أي دولةٍ أخرى (دُمرتْ ما تدعى بالمنطقةِ الحمراءِ؛ وهيَ المنطقةُ الأكثرُ تصنيعاً ومصدرُ معظمِ الفحمِ وخامِ الحديدِ في الشمالِ الشرقيِّ، وفي الأيامِ الأخيرةِ من الحربِ كانت المناجمُ قد غُمرت بالفيضاناتِ، كما دُمرتِ السككُ الحديديةُ والجسورُ والمصانعُ).[54] [هامش 10] هدفَ كلمنصو إلى ضمانِ أمنِ فرنسا من خلالِ إضعافِ ألمانيا اقتصادياً وعسكرياً وإقليمياً، وحلولِ فرنسا محلها كمنتجٍ رئيسٍ للصلبِ في أوروپا.[54] لخصَّ عضوُ الوفدِ البريطانيِّ المفاوضِ في ڤرسايَ الاقتصاديُّ الشهير جون مينارد كينز هذا الموقفَ بأنه محاولة «إعادةَ عقاربِ الساعةِ إلى الوراءِ، والتراجعِ عمّا حققه تقدمُ ألمانيا منذ العامِ 1870م».[55]
قالَ كلمنصو لويلسون: "أمريكا بعيدةٌ، محميةٌ بالمحيطِ.. وحتى نابليون نفسَه لا يمكنه أن يمسَّ إنجلترا.. كلاكما محميٌ. نحن لسنا كذلك".[56] أرادَ الفرنسيونَ حدوداً على نهر الراين -كمانعٍ جيوسياسيٍّ طبيعيٍّ- لحمايةِ فرنسا من الغزوِ الألمانيِّ، وكذلك لتعويضِ التدنّي السكاني والاقتصادي الفرنسي.[55][57] رفضَ الأمريكيونَ والبريطانيونَ الادّعاءَ الفرنسيَّ، وبعدَ شهرينِ منَ المفاوضاتِ وافقَ الفرنسيونَ على تعهدٍّ بريطانيٍّ بعقد تحالفٍ فوريٍّ معَ فرنسا إذا ما هاجمتها ألمانيا ثانيةً، ووافقَ ويلسون على تقديمِ اقتراحٍ مماثلٍ إلى مجلسِ الشيوخِ الأمريكي، وكانَ كلمنصو قد أخبرَ مجلسَ النوابِ في ديسمبرَ/كانونَ الأولَ عام 1918 أنَّ هدفَهُ الحفاظُ على تحالفٍ معَ كلا البلدين. قبلَ كلمنصو العرضَ مقابلَ احتلالِ الراينلاند لخمسةَ عشرَ عاماً، وعلى أن تقبلَ ألمانيا بمنطقة الراينلاند منطقةً منزوعةَ السلاح.[58]
طالبَ المفاوضونَ الفرنسيونَ بتعويضاتٍ لإرغامِ ألمانيا على دفعِ تكاليفِ الدمارِ الذي تسببت بهِ طيلةَ الحربِ، ولتقليصِ القدرةِ الألمانية.[58] كما أرادوا أيضاً خامَي الحديدِ والفحمِ في وادي السار («حوض السار» أوِ «السارلاند») من خلالِ ضمّهِ إلى فرنسا.[58] كان الفرنسيون على استعدادٍ لقبولِ مبلغٍ أقلَّ مما قد يتنازلُ عنه الأمريكيونَ من تعويضاتِ، كما كانَ كلمنصو مستعداً لمناقشةِ قدرةِ ألمانيا على الدفعِ معَ الوفدِ الألماني قبلَ صياغةِ التسويةِ النهائيّة. وفي أبريلَ/نيسانَ ومايو/أيارَ من العام 1919 عقدَ الفرنسيونَ والألمانُ محادثاتٍ منفصلةً حولَ ترتيباتٍ مقبولةٍ للطرفينِ بشأنِ قضايا مثلِ التعويضِ وإعادةِ الإعمارِ والتعاونِ الصناعيِّ. كما عارضت فرنسا جنباً إلى جنبٍ مع دولِ الدومنيونِ البريطانية وبلجيكا نظامَ الانتدابِ وفضلوا ضمَّ المستعمراتِ الألمانيةِ السابقة[59] ضماً مباشراً.
الأهداف الأمريكية
[عدل]قبلَ دخولِ أمريكا الحربَ ضد ألمانيا تحدثَ ويلسونُ عن "سلامٍ بلا نصر"، ثم تذبذبَ هذا الموقفُ بعدَ انهماكِ الولاياتِ المتحدةِ في الحرب في السادسِ من أبريلَ/نيسانَ 1917م، عندما تكلمَ عن المعتدينَ الألمانِ الذين لا يمكنُ أن يكونَ ثمةَ سلامٌ معهم،[60] وفي الثامنِ من ينايرَ/كانونَ الثاني 1918م ألقى خطاباً شهيراً -عُرفُ بـ"النقاطِ الأربعةَ عشرَ"- أعلنَ فيه أهدافَ السلامِ الأمريكيةِ: "إعادةُ بناءِ الاقتصادِ الأوروبيِّ، وتقريرُ المصيرِ للجماعاتِ العرقيةِ الأوروبيةِ وشرقِ الأوسطيةِ، وتعزيزُ التجارةِ الحرةِ، وإنشاءُ انتدابٍٍ مناسبٍ للمستعمراتِ السابقةِ [المحرَّرة]، وقبلَ كلِّ شيءٍ إنشاءُ عصبة أممٍ قويةٍ تضمنُ السلام.[61] كانَ الهدفُ من هذا المطلبِ الأخيرِ توفيرُ منتدىً لمراجعةِ معاهداتِ السلامِ حسبَ الحاجةِ، والتعاملِ معَ المشاكلِ التي نشأت وتنشأ نتيجةً للسلامِ ولظهورِ دولٍ جديدة.[62]
أحضرَ ويلسون معه كبارَ المفكرينَ كمستشارينَ لوفدِ السلامِ الأمريكي الذي ناف على ألف عضوٍ ومثل أكبر الوفود المشاركة، وردّدَ جميعهم الموقفَ الأمريكيَّ العامَّ؛ «النقاطُ الأربعَةَ عشرَ». عارضَ ويلسونُ بشدةٍ معاملة ألمانيا بقسوةٍ،[61] وفي حين سعى البريطانيونَ والفرنسيونَ -وبحماسةٍ كبيرةٍ- لضمِّ الإمبراطوريةِ الاستعماريةِ الألمانيةِ، رأى ويلسون في ذلكَ انتهاكاً للمبادئِ الأساسيةِ للعدالةِ وحقوق الإنسان للسكانِ الأصليينَ، وفضّلَ لهُمُ الحقَّ في تقريرِ المصيرِ من خلالِ إنشاءِ نظامِ الانتداب. كانتِ الفكرةُ المروَّجةُ عنِ القوى الكبرى أنها دعت إلى التصرفِ كأوصياءٍ غيرِ مهتمينَ بمنطقةٍ معينةٍ، ومساعدةِ السكانِ الأصليينَ حتى يتمكنوا من حكمِ أنفسهم.[63] وعلى الرغمِ من هذا الموقفِ فإنَّ ويلسونَ من أجلِ ضمانِ عدمِ رفضِ اليابان الانضمامَ إلى عصبة الأمم فضّلَ تسليمَ مستعمرةِ «شاندونچ» الألمانيةِ شمالَ شرقِيِّ الصينِ إلى اليابانِ بدلاً من إعادتها إلى السيطرةِ الصينية،[64] ومما زادَ من إرباكِ الأمريكيينَ السياساتُ الحزبيةُ الداخليةُ في الولاياتِ المتحدة، ففي نوفمبرَ/تشرينَ الثاني لعامِ 1918 فازَ الحزبُ الجمهوريُّ في الانتخاباتِ [النصفيةِ] في مجلسِ الشيوخِ بهامشٍ ضئيلٍ، لكنَ ويلسونَ -وهوَ ديمقراطيُّ- رفضَ ضمَّ الجمهوريّينَ البارزينَ إلى الوفدِ الأمريكيِّ مما جعلَ جهودَهُ تبدو حزبيةً، وساهمَ في خطرِ الهزيمةِ السياسيةِ في الداخل.[61] كانَ هذانِ الموقفانِ مما أسهمَ في هزِّ السمعةِ عن مثاليةِ ويلسونَ.
الأهداف الإيطالية
[عدل]بقيت إيطاليا على الحياد بالرغم من تحالفها مع «ألمانيا» و«النمسا والمجر»، وفي العام 1915 انضمت إلى الحلفاء بموجب اتفاقيةِ لندن السرية (26-4-1915) (بالإيطالية: Patto di Londra) مع دولِ الوفاق الثلاثي، وفيها وُعدت بأراضٍ؛ تيرنتينو، وجنوب التيرول حتى برينر، وترييستي (بالإيطالية: Trieste)[هامش 11] (جنوب شرقيَّ البندقية)، وشبه جزيرة إستريا، ومعظم الساحل الدلماشي (باستثناء ميناء افيومي)، وفالونا، ومحميةً على ألبانيا، وأنطاليا (على المتوسط في تركيا)، وربما مستعمراتٍ في إفريقيا.[هامش 12]
في باريس حاول رئيس الوزراء الإيطالي فيتوريو إيمانويل أورلاندو التوصل إلى التنفيذ الكامل لمعاهدة لندن. استند دعمه الشعبي على خسارة سبعمئة ألف جنديٍّ وتكاليفَ قُدّرت باثنيْ عشر مليار ليرةٍ إيطاليةٍ في الحرب ما جعل الحكومة والشعب يشعران بحق الحصول على مناطقَ أخرَ لم تذكر في معاهدة لندن، وخاصةً افيومي التي اعتقد الكثير بوجوب ضمها بسبب أغلبية سكانها الطليان.[65]
عملَ رئيسُ الوزراءِ فيتوريو إمانويلي أورلاندو ووزيرُ خارجيّتِهِ سيدني سونينو -وهو أنجليكانيٌّ من أصلٍ بريطانيًّ- في المقامِ الأولِ لتأمينِ تقسيمِ ملكيّةِ هابسبورچ. بشكلٍ عامٍّ كانَ سونينو يتماشى مع الموقفِ البريطانيِّ بينما فضّلَ أورلاندو تسويةً ما فيما بينَ كلمنصو وويلسونَ (كان أورلاندو لا يعرف الإنجليزية، ووقع العبء الأكبر في التواصل والتفاوض على سونينو). حازت إيطاليا -في المفاوضاتِ بما يخص معاهدة لندن- على إستريا وترييستي وترينتينو وجنوب التيرول، وسُلمت معظم دالماشيا إلى صربيا وكرواتيا وسلوڤينيا، وبقيت افيومي متنازعاً عليها ما تسبب في غضبٍ قوميٍَ، واعتُرف بالمحمياتِ على ألبانيا وأنطاليا وجزر الدوديكانيز في بحر إيجه. حاز أورلاندو أيضاً على العضويّةِ الدائمةِ لإيطاليا في مجلسِ الأمنِ التابعِ لعصبة الأمم، ووعدٍ بانتقال قطاعِ جوبا لاند[هامش 13] البريطانيِّ، وقطاعِ أوزو[هامش 14] الفرنسيِّ إلى المستعمرتينِ الإيطاليّتينِ في كلٍّ منَ الصومال وليبيا على التوالي. مع ذلكَ اعتبرَ القوميونَ الطليانُ الحربَ انتصاراً مشوهاُ لما اعتبروه مكاسبَ إقليميّةً صغيرةً جرى تحقيقُها في المعاهداتِ الأخرى التي تؤثرُ بشكلٍ مباشرٍ على حدودِ إيطاليا، واستغلوا الأمر لزيادة شعبيتهم. أُجبرَ أورلاندو في النهايةِ على التخلي عنِ المؤتمرِ والاستقالة، وحيث لم يعتبرِ الحرب العالمية الأولى نصراً مشوّهاً، فقد قال ردّاً على القوميينَ الذين طالبوا بتوسعٍ أكبرَ: إنَّ «إيطاليا اليومَ دولةٌ عظيمةٌ... على قدمِ المساواةِ معَ الدولِ التاريخيّةِ والمعاصرةِ العظيمة. هذا بالنسبةِ لي هو هدفُنا الرئيس والتوسعُ الرئيس». يومَ التوقيعِ على المعاهدةِ احتلَّ فرانشيسكو سافيريو نيتي مكانَ «أورلاندو» الذي كان مضى أسبوع واحد على استقالته.[66]
فحوى المعاهدة وإمضاؤها
[عدل]رسم ساخر برتغالي (30-6-1919)، بعنوان «السلام»[هامش 15]
في الثامنَ عشرَ من أبريل/نيسان 1919 غادر وفدٌ ألمانيٌّ من ثمانين ومئة (180) عضوٍ برئاسةِ وزيرِ الخارجيةِ «أولريش چراف فون بروكدورف رانتزاو»[هامش 16] إلى باريسَ للتفاوض على ما اتفق عليه الحلفاءُ، لكن في الخامس من مايو/أيار أُبلِغ الوزير الآلماني أنه لن تكون ثمة مفاوضات، وأنه بمجرد تسلم مُسَوّدة الاتفاق -التي بلغت ثمانين ألف كلمةٍ- فإن أمام الألمان خمسة عشر يوماً للرد. في السابعِ من مايو/أيار 1919 مع تسلم المُسوّدة ردَّ «فون بروكدورف رانتزاو» على ويلسون وكلمنصو ولويد جورج: «يمكننا أنْ نشعرَ بقوةِ الكراهيةِ الكاملةِ التي تواجهُنا هنا... تطلبونَ منا الاعترافَ بأنّا الطرفُ المذنبُ الوحيدُ في الحربِ؛ مثلُ هذا الاعترافِ من فمي سيكون كذبةً»، أصدرتِ الحكومةُ الألمانيةُ احتجاجاً على ما اعتبرته مطالبَ غيرَ عادلةٍ و«انتهاكاً للشرفِ»، وانسحبت بعدَ ذلك بوقتٍ قصيرٍ من المؤتمر. وفي خطابٍ عاطفيٍّ أمامَ الجمعيّةِ الوطنيّةِ في الثاني عشر من مايو/أيارَ 1919 وصفَ رئيسِ الحكومة «فيليب شايدمان» المعاهدةَ بأنها «مطرقةُ ساحرةٍ مروعةٌ قاتلةٌ»،[67] وصاح: «أي يدٍ لا تنقبض؟! تلك التي تُصفّد نفسها وتُصفّدنا بهذه الطريقة!!!»[68][67] في يونيو/حزيرانَ 1919 أعلنَ الحلفاءُ أنَ الحربَ ستستأنفُ إذا لم توقعِ الحكومةُ الألمانيةُ على المعاهدةِ. لمْ تتمكنِ الحكومةُ من إقرار موقفٍ مشتركٍ، وفي 18 يونيو/حزيران أعلن وزير الخارجيةِ أن المادة 231 ستجعل ألمانيا تقبل المسؤولية الكاملة عن الحرب،[69][70][71] وظهرت عبارة «بند ذنب الحرب»، استقالَ «فيليب شايدمان» -أولُ رئيسِ حكومةٍ ألمانيٍّ منتخبٍ ديمقراطيّاً- في 20 يونيو/حزيران 1919 بدلاً منَ الموافقةِ على التوقيعِ. استنكرَ الألمانُ من جميعِ الأطيافِ السياسيّةِ المعاهدةَ -لا سيما البندَ الذي يُنحي باللائمةِ على ألمانيا في بدءِ الحربِ- باعتبارها إهانةً لشرفِ الأمة، وأشاروا إليها باسمِ «الإملاءِ» (بالألمانية: Das Diktat) إذ جرى طرحها على ألمانيا على مبدأِ «خذها أو دعها» (بالإنجليزية: Take it or leave it).
أرسلَ چوستاڤ باور رئيسُ الحكومةِ الجديدةِ برقيةً تفيدُ بنيتِهِ التوقيعَ إذا ما جرى سحبُ بعض الموادِّ بما في ذلكَ الموادُّ 227 و230 و231، فأصدرَ الحلفاءُ ردّاً على ذلكَ إنذاراً في (22/ 6/ 1919) بأن على ألمانيا قَبولَ المعاهدةِ في غضونِ أربعٍ وعشرينَ ساعةً أو مواجهةَ غزوٍ من قواتِ الحلفاءِ عبرَ نهر الراين. جرتْ مشاوراتٌ بينَ رئيسِ الوزراءِ ورئيسِ الجمهوريةِ الذي طلبَ من قائدِ الجيشِ فون هندنبرچ تقييماً للوضعِ، والذي بدورهِ -بعدَ مشاوراتٍ مع قادةِ الجيشِ- كلفَ رئيسَ هيئة الأركانِ بإبلاغِ الحكومةِ بأنْ لا قبلَ للجيش بمواجهةٍ عسكريةٍ ما أسهمَ في تصويتِ الجمعيةِ الوطنيةِ بالموافقةِ على المعاهدة، وفي الثالثِ والعشرينَ من يونيو/حزيرانَ وقبلَ سويعاتٍ من انقضاءِ المهلةِ أرسلَ باورُ برقيّةً تفيد بأنَّ وفداً ألمانياً سيصلُ قريباً للتوقيعِ. يومَ السبتِ الثامنِ والعشرين من يونيو/حزيرانَ عام 1919 وفي الذكرى الخامسةِ لاغتيالِ الأرشيدوقِ «فرانز فرديناند» -الصاعقُ الذي فجرَ أُوارَ الحربِ- جرى التوقيعُ على معاهدةِ ڤرساي للسلام.[72] على أن يبدأ نفاذها في 10 يناير/كانون الثاني 1920م.
فضلاً عن ألمانيا كان من الموقعين الولايات المتحدة الأمريكية (لكن الكونجرس لم يُصدقها)، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان، وبلجيكا، واليونان، وپولندا، والبرتغال، ورومانيا، وصربيا، وتشيكوسلوڤاكيا، وكرواتيا، وسلوڤينيا، وبوليڤيا، والبرازيل، وكوبا، والإكوادور، وچواتيمالا، وهايتي، وهندوراس، ونيكاراچوا، وپنما، والپيرو، والأوروچواي، وليپيريا، ومملكة سيام، ودولُ الدومينيون المشاركةُ في الحرب؛ كندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وجنوب إفريقيا، وحكومة الهند الإنجليزية، وكانت المملكة الحجازية الهاشمية استنكفت عن التوقيع اعتراضاً على تصريح بلفور واتفاقية سايكس بيكو -المتعارضين مع المعاهدة العربية-البريطانية كما اتفق عليها في مراسلات الحسين - ماكماهون- وكذلك إدراج منطقة الهلال الخصيب تحت بند الانتداب، كما كانتِ الصين في حالة حربٍ مع ألمانيا منذ العام 1917، واشتركت في مؤتمر باريس لكن حكومتها لم توقعِ اعتراضاً على مصير مستعمرة «تسينغتاو».
تضمّنتِ المعاهدةُ خمسة عشر فصلاً وأربعينَ وأربعمئةِ (440) مادةٍ تناولت ما بينَ جرائمِ الحربِ، وحظرِ اندماجِ النمسا مع ألمانيا دون موافقةِ عصبة الأمم، وحريةِ الملاحةِ في الأنهارِ الأوروبيةِ الرئيسةِ، وعودةِ المصحفِ إلى ملكِ الحجاز [بمعنى الاستقلالِ عن الدولةِ العثمانيّة].
من بين المعاهدات التي نتجت عن الحرب كانت معاهدة ڤرساي الأولى التي أقرتِ المنظماتِ الدوليةَ ونظامَ الانتدابِ ونظمتِ الحدود.. إلخ، وتلتها أربعٌ أخرُ مع بقيةِ دول المركز -وجميعها لم تُدعَ إلى المفاوضات- كلٌّ بما يخصها من تسويات ما بعد الحرب، أما الوحيدة التي أُلغيت -باتفاق الطرفين- فكانت معاهدة سيڤر واستبدل بها معاهدة لوزان عام 1923. بناءً على معاهدات الصُّلحِ وهيَ معاهدةُ ڤرسايَ معَ ألمانيا في الثامنِ والعشرينَ (28) من يونيو/حزيرانَ لعامِ 1919م[73] والمعاهداتِ اللاحقةِ عليها والمتمِّمةِ لها، وكلها وُقّعت في فرنسا، وهي:
- * معاهدةُ سان جرمان (بالإنجليزية: Treaty of Saint-Germain-en-Laye) معَ النِّمسا في العاشرِ (10) من سبتمبر/أيلولَ لعامِ 1919م.[74]
- * ومعاهدةُ نويي (بالإنجليزية: Treaty of Neuilly-sur-Seine) مع بلغاريا في السابعِ والعشرينَ (27) من نوفمبر/تشرينَ الأولِ لعامِ 1919م.[75]
- * ومعاهدةُ تريانون (بالإنجليزية: Treaty of Trianon) معَ المجرِ في الرابعِ (4) من يونيو/حزيرانَ لعامِ 1920م.[76]
- * ومعاهدةُ سيڤر (بالإنجليزية: Treaty of Sèvres) مع الدولةِ العثمانيةِ في العاشرِ (10) من أغسطسَ/آبَ لعامِ 1920م.[77]
بُعثتْ دولةٌ إلى الحياةِ مجدداً وهيَ پولندا، وكذلك شُطرتِ النمسا والمجر فانفصلتْ كلٌّ منهما عنِ الأخرى، وأضحتَا كيانيْنِ مستقلين. واصْطُنعتْ دولةٌ أخرى هي تشيكوسلوڤاكيا، وتحولّتْ دولتانِ صغيرتانِ إلى دولتينِ كبيرتيْنِ، وهما:
- * يوچوسلاڤيا التي كانت مملكةَ صربيا قبلَ الحربِ، فتضاعفت مساحَتُها ثلاثةَ أضعافٍ، وازدادَ سكانها إلى ثلاثةِ أمثالٍ أيضاً (12 مليوناً عامَ 1921) بعدما أضيفَ إليها:[هامش 17]
الجبل الأسود (13.812 كم²) (بالإنجليزية: Montenegro)، وكرواتيا (56.594 كم²) (بالإنجليزية: Croatia) بما فيها دلماشيا، والبوسنة والهرسك (51.129 كم²) (بالإنجليزية: Bosnia and Herzegovina)، وسلاڤونيا (20.273 كم²) (بالإنجليزية: Slovenia)، وذلكَ على حسابِ إمبراطورية النمسا والمجر.
- * ورومانيا التي تضخَّمتْْ مساحتُها كثيراً فاستردّت ترانسلڤانيا (الأردل) (102.834 كم²) منَ المجر، وبوكوڤينا (بالإنجليزية: Bucovina) من أوكرانيا، ومقاطعة بساربيا من روسيا (والتي غدت دولة مولدوفا أو مولدافيا بعد الحرب العالمية الثانية)، وبذلكَ تضاعفتْ مساحتُها مثلما تضاعفَ سكانُها حتى انضمَّ إليها أكثرُ منْ ثمانيةِ ملايينَ نصفُهم فقط من الرومانيين.
التعديلات المناطقية
[عدل]إدوارد هاوس عضو الوفد الأمريكي، يوميات (29-6-1919)
لم يؤثرْ حدثٌ ما على خارطةِ أوروبا السياسيّةِ طيلَةَ تاريخِها مثلُ معاهدةِ ڤرسايَ وما لحقها من المعاهداتِ، ذلكَ أنه حتى تبعاتِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ لم تعدِّلِ الحدودَ الدوليةَ مثلما فعلت معاهدةُ ڤرسايَ وتوابُعها، وفيما عدا بريطانيا والبرتغال فإن جميع الدول الأوربية التي اشتركت في الحرب أصابَ حدودَها التعديل. لقد أعيد رسمُ الحدودِ في وسط أوروبا وشرقِها وأجزاءٍ مهمةٍ من غربِها، وأنشئت دولٌ جديدةٌ بالكاملِ واندثرت أخرى، وتداخلتِ القوميّاتُ والأقليّاتُ والدياناتُ في مجموعةٍ منَ الكياناتِ الصغيرةِ سواءً الناتجةِ أم المعَدَّلة.
ألمانيا
[عدل]جرّدتِ المعاهدةُ ألمانيا من خمسةٍ وعشرينَ ألفَ (25.000) ميلٍ مربعٍ (ما يعادلُ خمسةً وستينَ ألفَ (65.000) كم²) منَ الأراضي وسبعةِ ملايينِ نسمةٍ [من أصل نحو 60 مليوناً]، كما طولبتْ بالتخلي عنِ المكاسبِ التي حققتها من معاهدة برست ليتوفسك (معاهدةُ السلامِ التي وقعها الاتحاد السوفييتي في 3 مارس/آذار 1918 معَ دولِ المركزِ عقبَ خروجِه منَ الحرب) ومنحِ الاستقلالِ للمحميّاتِ التي جرى إنشاؤها.[78][هامش 18]
في أوروبا الغربيةِ طُلبَ من ألمانيا الاعترافُ بالسيادةِ البلجيكيةِ على مدينةِ «مورِسْنِت» (بالإنجليزية: Moresnet)، والتنازلُ عن منطقةِ «مالميدي» (بالإنجليزية: Eupen-Malmedy)، وفي غضونِ ستةِ أشهرٍ من نقلِ السيادةِ طُلبَ من بلجيكا إجراءُ استفتاءٍ عامٍّ حولَ اختيارِ مواطني المنطقةِ بالبقاءِ تحتَ السيادةِ البلجيكيةِ أو العودةِ إلى ألمانيا، وتبليغِ النتائجِ إلى عصبة الأمم، والالتزامِ بقرارِها. أجريَ الاستفتاءُ في 20 سبتمبرَ/أيلولَ 1920. خصصت عصبةُ الأممِ هذه الأراضي لبلجيكا، وأعقب ذلكَ لجنةُ الحدودِ في العام 1922، ثم وضعُ الحدودِ الجديدةِ التي اعترفت بها الحكومةُ الألمانيّةُ في 15 ديسمبر/كانون الأول 1923.[79]
وكتعويضٍ عن تدميرِ مناجمِ الفحمِ الفرنسيّةِ تقرر على ألمانيا التنازلُ عن إنتاجِ مناجمِ الفحمِ في منطقةِ السارِ لفرنسا علاوةً على التنازلِ عنِ السيادةِ على الإقليم لإدارةٍ دوليةٍ بإشرافِ عصبة الأمم لخمسةَ عشرَ (15) عاماً يُجرى استفتاءٌ بعدها لتقريرِ السيادة. في 13 ينايرَ/كانونَ الثاني (1935) -وبعدَ خمسة عشرَ عاماً من نفاذِ المعاهدة- أجريَ استفتاءُ تحديدِ مستقبلِ السارلاند. جاءَ تسعونَ في المئةِ من الأصواتِ لصالحِ الاتحادِ مع ألمانيا، وأربعةٌ بالألفِ للاتحادِ مع فرنسا، وعاد الإقليم للسيادةِ الألمانيّةِ في الأولِ من مارسَ/آذارَ (1935).[80]
أعادتِ المعاهدةُ أيضاً مقاطعتيْ الألزاس (بالفرنسية: Elsass) واللورين (بالفرنسية: Lorraine)، (بالإنجليزية: Alsace-Lorraine) إلى فرنسا بإلغاءِ البنودِ التي تخصُّ هاتينِ المقاطعتينِ في معاهدتيْ ڤرسايَ وفرانكفورتَ لعامِ 1871. تمكنت فرنسا منَ الادّعاءِ بأنَّ مقاطعتيْ الألزاسِ واللورينِ كانتا بالفعلِ جزءاً منْ فرنسا وليستا ألمانيتين من خلالِ الكشفِ عن رسالةٍ مُرسلةٍ من الملكِ الپروسي إلى الإمبراطورةِ أوجيني والتي قدمتها أوجيني للمؤتمر، وفيها كتبَ «ڤيلهلم الأول» أنَّ ألمانيا أرادتْ ضمّ أراضي المقاطعتينِ لغرضٍ وحيدٍ هو الدفاعُ الوطني وليسَ لتوسيعِ الأراضي الألمانيّة.[81]
أجريَ استفتاءٌ في پروسيا الشرقية (بالألمانية: Ostpreußen) في 11 يوليو/تموزَ 1920. وقرّر 99.3 % من السكانِ من أصلِ 90 % نسبة المشاركينَ البقاءَ مع ألمانيا،[79] كما مُنحتْ دولةُ پولندا الجديدةُ رقعةً كبيرةً منَ الأراضي الألمانية تتمثلُ في پروسيا الغربيّةِ وبوزن، وممراً ضيقاً إلى بحر البلطيق ينتهي غربَ دانتزيج (أو چدانسك الپولونيةِ)، وهوَ ما عُرفَ بقضيةِ «الممر الپولندي». وبذا فُصلَ برّياً ما بينَ پروسيا الشرقيّةِ وألمانيا (قُسَِمتْ پروسيا الشرقيّة لاحقاً عقبَ الحرب العالمية الثانية بينَ روسيا الاتحادية (ضمنَ الاتحاد السوفييتي) وپولندا، وثمةَ جيبُ صغيرٌ منَ الأرضِ اليومَ على بحر البلطيق شمالَ شرقيَِ پولندا يتبعُ روسيا الاتحادية ومفصولٌ عنها بريّاً (يبعد حوالي 80 كم عن حدود روسيا البيضاء) هوّ منطقةُ مدينةِ «كونيچسبرچ» (بالألمانية: Königsberg) أو «كاليننچراد» الروسية منذ 1946)[هامش 19]، كما أعطيتْ پولندا جزءاً كبيراً من سيليزيا العليا بما فيهِ من نصيبٍ وافرٍ من الثروةِ المعدنيّةِ.
بعد تنفيذِ المعاهدةِ كانت سيليزيا العليا تحكمها في البدايةِ بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.[82] بينَ العاميْن 1919م و1921م اندلعتْ ثلاثةُ أعمالٍ عنفٍ كبيرةٍ بينَ المدنيينَ الألمانِ والپولنديين ما أدى إلى تورطِ القواتِ العسكريةِ الألمانية والپولندية أيضاً.[82][83] في مارسَ/آذارَ (1921) عقدتِ اللجنةُ المشتركةُ بين الحلفاءِ استفتاءَ سيليزيا العليا الذي تمَّ سلميّاً بالرغم من أعمالِ العنفِ السابقة. صوتَ حواليْ ستونَ بالمئةِ للبقاءِ مع ألمانيا.[84] بعدَ التصويتِ ناقشت عصبةُ الأممِ مستقبلَ المقاطعةِ،[85] وعام 1922م قُسِّمت سيليزيا العليا؛ في الشمالِ الغربيِّ «أوپلن» (بالإنجليزية: :Oppeln) (أوبولي أو أبولوسكي بالبولونية) بقيت مع ألمانيا بينما نُقل الجنوبُ الشرقيُّ من سيليزيا إلى پولندا.[82]
وتقررَ أن يُتنازلَ عن «ميمل» (بالألمانية: Memel)، (بالليتوانية: Klaipėda) -الإقليمُ الصغيرُ في أقصى شمالِ شرقيِّ پروسيا الشرقيةِ- إلى الحلفاءِ لتقريرِِ مصيرهِ وفقَ مايرتؤونَ، فبقيَ تحت سلطةِ عصبة الأمم مع حاميةٍ عسكريةٍ فرنسيةٍ إلى 9 ينايرَ/كانونَ الثاني (1923) عندما غزتْ ليتوانيا المنطقةَ أثناءَ ثورةِ «كلايپدا». انسحبتِ الحاميةُ الفرنسيةُ، وفي فبرايرَ/شباطَ وافقَ الحلفاءُ على ضمِّ ميمِل إلى ليتوانيا على شكلِ «منطقةِ حكمٍ ذاتي». في الثامنِ منْ مايو/أيارَ (1924) بعدَ مفاوضاتٍ بينَ الحكومةِ الليتوانيّةِ ومؤتمرِ السفراءِ وجهودِ عصبة الأمم صُدِّقَ على ضم «ميميل» إلى ليتوانيا.[86] قبلت ليتوانيا «قانونَ ميملَ الأساسيّ»، وهوَ ترتيبٌ لتقاسمِ السلطةِ لحمايةِ غيرِ الليتوانيين في الإقليمِ بالإضافةِ إلى وضعهِ «ذاتيِّ الحكمِ» بينما تبقى المسؤوليةُ عن الإقليم بيدِ القوى العظمى. على المستوى المحليِّ توسطتْ عصبةُ الأممِ بينَ الألمانِ والليتوانيينَ ممّا ساعدَ على استمرارِ ترتيبِ تقاسمِ السلطةِ حتى العامِ 1939.[86] ضُمَّ هذا الإقليمُ نهائياً إلى ليتوانيا بعدَ الحرب العالمية الثانية.
وكانَ منَ المقررِ عن طريقِ استفتاءٍ عامٍّ يُعقدُ في وقتٍ لاحقٍ أن يُحلَّ موضوعِ السيادةِ على اشلزفيچ-هولشتاين.[87] [هامش 20] بنتيجةِ استفتاءٍ من خيارينِ فقط؛ إما الدنمارك وإما ألمانيا جرى في فبراير/شباطَ ومارس/آذارَ 1920 صوّتت «اشلزفيچ الشمالية» الناطقة بالدنماركيةِ لصالحِ الانضمامِ للدنمارك، فيما صوّتت «اشلزفيچ الجنوبية» الناطقة بالألمانيّةِ لصالحِ ألمانيا.[87]
وعلاوةً على فقدانِ ألمانيا مستعمراتِها، فقدِ اشْتُرطَ لضمانِ الأمنِ في أوروبا عدمُ قيامِ اتحادٍ سياسيٍّ بينها وبينَ النمسا من دونِ موافقةِ عصبة الأمم.[88] [هامش 21]
كانتِ المفاوضاتُ حولَ خارطة ألمانيا ومستقبلِها عسيرةً جداً وطويلةً وشاقّةً، لكنَّ الحلفاءَ -فيما عدا إنشاءِ پولندا ورسمِِ حدودِها- نظروا إلى الناحيةِ الماديّةِ المتمثلةِ بالتعويضاتِ، واقتسامِ المستعمراتِ القليلةِ لألمانيا أكثرَ من الاهتماماتِ الأخرى، وبذلكَ تَركت معاهدةُ ڤرسايَ الرايخ الألماني سليماً إلى حدٍّ كبيرٍ من الناحيتينِ الجغرافيةِ والاقتصاديةِ، وحفظت لهُ وحدتَهُ السياسيةَ وإمكاناتِهِ، كما سنرى لاحقاً في الفصل الأخير. الأمرُ الذي لمْ يحدثْ بالمثلِ معَ الإمبراطوريّتيْنِ النمساويةِ-المجريةِ والعثمانيةِ في ما يخصُّ معاهدتيهما اللاحقتين.
النمسا
[عدل]اقتُطِعَتْ من النمسا بوهيميا وموراڤيا اللتين يبلغُ تعدادُ سكانِهما عشرةُ ملايينَ أغلبيتهم من التشيك ليتكوَّنَ منهمُ ومن مليونيْنِ منَ السلوڤاكِ ومليونٍ آخرَ منَ المجرييّنَ والروتينيينَ دولةُ تشيكوسلوڤاكيا المستحدثةُ. كذلكَ تخلتِ النمسا لإيطاليا عن جنوبِ التيرول، ومنطقةِ تيرنتينو، وميناء ترييستي، وشبهِ جزيرةِ إستريا، وبعضِ الجزرِ على ساحلِ دلماشيا على الأدرياتيك.[89]
لم يكتفِ الحلفاءُ بذلك، بل قلصتْ معاهدةُ سان جرمانَ عديدَ سكانِ النمسا أكثر، فبعدما كانَ تعدادُهمْ اثنينِ وعشرينَ (22) مليوناً أتبعتِ المعاهدةُ سبعةَ ملايينِ ونصفَ مليونٍ (7.5) منَ السلاڤِ في چاليسيا إلى پولندا الجديدةِ، وأكثرَ من مليونٍ آخرينَ من غيرِ الألمانِ، كما تقلصتْ مساحتُها إلى نصفِ مساحتِها السابقة.[90] وحُدّد جيشها بثلاثين ألفاً، كما رفض الحلفاء التسمية الجديدة «دولة النمسا الألمانية» (بالألمانية: Staat Deutschösterreich) [المتآلفة مع واقع أن النمساويين من أصولٍ جرمانيةٍ، والألمانيّةَ لغتُهم الأم]، وأُقِرَّت معاهدةُ «سان جرمان» باسم «دولة النمسا».[91]
وبذلكَ تحولّتِ النمسا التي بقيتْ في المركزِ منَ الحياةِ السياسيةِ في أوروپا لأكثرَ من خمسةِ قرونٍ خلتْ إلى دولةٍ صغيرةٍ (83,855 كم²) قليلةِ المواردِ مغلقةٍ دونما ميناءٍ بحريٍّ في وسطِ أوروپا.
المجر
[عدل]انفصلتِ المجر عن النمسا نتيجة الحرب، وفي 4 يونيو/حزيران 1920 وُقعت في ڤرساي معاهدة تريانون التي فَرضتْ عليها جيشاً لايتجاوز تعدادُه خمسةً وثلاثين ألفاً، ووَزعتْ مناطقَ من أراضيها السابقةِ على:[92][93][94]
- يوچوسلاڤيا من الجنوب، فحازتْ صربيا إقليمَ ڤويڤودينا (21,507 كم²) -التابع لمملكةِ هنغاريا ما بينَ (1876–1920)- ذي الأغلبيةِ الهنغارِيةِ النسبيّةِ (كانَ نصفُ سكانِهِ هنغارٌ وألمانٌ، وثلثُه من الصربِ ذلك الوقت، والإقليمُ يتمتعُ بحكمٍ ذاتيٍّ ضمن صربيا منذُ الحرب العالمية الثانية بسببِ وضعِهِ السكاني هذا)، كذلك انفصلت كرواتيا وسلوڤينيا وانضمتا إلى يوچوسلاڤيا.
- ورومانيا من الشرقِ ومنحتْ إقليمَ ترانسلڤانيا (102,834 كم²).
- وتشيكوسلوڤاكيا من الشمال وحازت إقليم «كارباثيان روثينيا».
- وضُمَّ معظم إقليم «بورچنلاند» إلى النمسا ذاتِها من الغرب، في حين اختارت مقاطعة «سوبرون» البقاء مع المجر بموجب استفتاءٍ عامٍّ جرى في ديسمبر/كانون الأول من العام 1921.
تقلصت مساحة المجر إلى 93,030 كم²، وحُرمتْ من منفذها على البحر الأدرياتيكي وهو ميناء افيومي (بالإنجليزية: Fiume) (ريكا الكرواتية (بالكرواتية: Rijeka) حالياً)، وتقرر عليها تسليم أسطولها التجاري للحلفاء، فأضحت دولةً مغلقةً وتضاءلت مساحتُها من خمسةٍ وعشرينَ ومئةِ (125) ألفِ ميلٍ مربعٍ إلى ثلاثينَ وخمسةِ (35) آلافٍ وحسب.
تشيكوسلوفاكيا
[عدل]في أوروپا الوسطى كانَ على ألمانيا والنمسا الاعترافُ باستقلالِ «تشيكوسلوڤاكيا» (بالإنجليزية: Czechoslovakia) الدولةِ المستحدثةِ (كانت فيما سلف تحتَ سيطرةِ النمسا). ونُقلت منطقةُ «هولتشين» (بالألمانية: Hultschin) الصغيرةُ في سيليزيا العليا إليها أيضاً في 3 فبراير/شباطَ 1921.[79]
بالمقابلِ ولدتْ مشكلةُ إقليمِ «السوديت» (سوديتنلاند) (بالألمانية: Sudetenland)، وهي المناطقُ الحدوديةُ بين ألمانيا وتشيكوسلوڤاكيا -وتشكلُ أجزاءً من أقاليمِ بوهيميا وموراڤيا وسيليزيا التشيكية- ويقطنها ألمانٌ (تسعونَ بالمئةِ من سكانِها من الألمان)، وكانت مثار نزاعٍ بين الدولتينِ أثاره هتلر وبدأ بضم السوديت في 1 أكتوبر/تشرين الأول 1938، وانتهى بالاحتلال الألماني لتشيكوسلوفاكيا في 15 مارس/آذار 1939،[95] فلما استعادتها تشيكوسلوفاكيا عقب الحرب العالمية الثانية طردتْ سكانها الألمانَ منها.[هامش 22]
بلغاريا
[عدل]أسفرتِ الحرب عن خسائرَ إقليميةٍ كبيرةٍ لبلغاريا وما يقارب 87.500 جنديٍّ قتيل.[96] قضت معاهدة نويي بتقليصِ مساحةِ بلغاريا بمقدارِ العُشرَ (حوالي أحدَ عشرَ ألفَ كم²) وخسارةِ سُبعِ سكانها بعدما فقدت تراقيا الغربية (8.578 كم²) التي كانت انتزعتْها منَ الدولة العثمانية نتيجة حربي البلقان الأولى والثانية 12-1913م، وكانت حيويةً لأنها منفذٌ لها إلى بحر إيجة إضافةً لساحلِها على البحر الأسود (لحظت معاهدة نويي تأمين منفذٍ إلى بحر إيجه لكنه لم ينفذ). وُضعت هذهِ المنطقةُ (تراقيا الغربية) تحتَ إدارةِ الحلفاءِ ثم تقرر تسليمها إلى اليونان في مؤتمر سان ريمو (19-26 أبريل/نيسان 1920)، كما سُلمت ثلاثُ مناطقَ صغيرةٍ على حدودِها الغربيةِ إلى يوچوسلاڤيا.[97] ما بين العامين 1912 و1929 هاجر أكثر من 253.000 لاجئٍ إلى بلغاريا من الأراضي المفقودة نتيجة هذه الحروب العديدة كلها،[98] وهكذا غدت بلغاريا -التي كانتْ تتطلعُ لزعامةِ دولِ البلقان في عامِ (12-1913م) (كانت تلقب «پروسيا البلقان»)- إحدى أصغرِ دولِ المنطقةِ [قبلَ إعلان استقلالها (5 أكتوبر/تشرين الأول 1908) كانت إقليماً ذا حكم ذاتي ضمنَ الدولة العثمانية تأسسَ بنتيجة الحرب الروسية العثمانية (1877–1878)، ومعاهدة سان استيفانو (1878)، ومؤتمر برلين (1878)].
بولندا
[عدل]لحظتِ النقطةُ الثالثةَ عشرةَ من مبادئ ويلسون «دولةً بولنديةً مستقلةً» مع إتاحة وصولها إلى البحر.[99] [هامش 23] كانَ على ألمانيا أن تعترفَ باستقلالِ پولندا وأن تتخلى عن «جميعِ الحقوقِ والملكيّةِ على الإقليم». تقررَ التنازلُ عن أجزاءٍ من «سيليزيا العليا» لبولندا أيضاً معَ تحديدِ مستقبلِ بقيةِ المقاطعةِ عن طريقِ الاستفتاء. وتحدَّدُ الحدودُ الداخليةُ بناءً على التصويتِ والظروفِ الجغرافيّةِ والاقتصاديّةِ لكلِّ منطقة. أما مقاطعةُ بوزِن (بالبولونيةِ «بوزنان») -التي غدت تحتَ السيطرةِ البولنديّةِ خلالَ انتفاضةِ بولندا الكبرى- فجرى التنازل عنها أيضاً لبولندا.[100][101] كان مقرراً تقريرُ السيادةِ على جزءٍ من جنوبِ شرقِ پروسيا عبرَ الاستفتاءِ بينما نُقلت منطقةُ «سولداو» البروسيّةُ الشرقيّةُ -انواقعةُ على جانبيْ الخطِّ الحديديِّ الرابطِ بينَ «وارسو» («ڤرصوفيا» البولونيةِ) وميناءِ «دانتزيچ»- إلى بولندا من دونِ استفتاءٍ.
جرى منحُ ما يعادلُ (51,800) كم² (عشرينَ ألفَ ميلٍ مربعٍ) إلى بولندا من أراضي مملكة بروسيا (بالإنجليزية: Prussia).[102] ونقلَ قسمٌ من «بوميرانيا الشرقيةِ» (بالبولونيةِ «بومريليا») على أسسٍ تاريخيّةٍ وعرقيّةٍ إلى بولندا لتسهيلِ وصولِ هذهِ الأخيرةِ إلى البحرِ؛[103] القضيّة التي أضحت تُعرفُ باسمِ «الممرِّ البولندي» (بالإنجليزية: Polish Corridor).
شملتِ الأراضي البولندية بولندا الروسيّةِ وبولندا النمساويّةِ وبولندا البروسيّةِ القديمةِ، وتوسَّعت نحوَ الشرقِ غيرَ أنَّ المعاهدةَ لم تعيّنِ الحدودَ من تلك الجهةِ، فوقعتِ الحربُ البولندية-السوفييتيّة (19-1920م) التي أعقبتها معاهدةُ ريغا (18 مارس/آذار 1921م) لترسيم الحدود.[104]
دانتزيج الحرة
[عدل]أمل الپولنديون بأن تصبح «دانتزيج» (اللفظ بالألمانية، بالإنجليزية: دانزيچ) (بالإنجليزية: Danzig) ((بالبولندية: Gdańsk)، «چدانسك») جزءاً من پولندا. تقرّرَ على ألمانيا التنازلُ عن الميناءِ ذي الأغلبيّةِ الألمانيّةِ وما حوله (ما يقرب من مئتي قريةٍ) بما في ذلك دلتا نهرِ «فيستولا» على البلطيقِ لعصبةِ الأممِ لإنشاءِ مدينةِ دانتزيچ الحرّةِ (المواد 100-104 من القسم الحادي عشر من الجزء الثالث للمعاهدة).
دون أي تصويتٍ عامٍّ لإضفاء الشرعية على خسارةِ ألمانيا للمدينة ولدت مدينة دانتزيج الحرة (بالألمانية: Freie Stadt Danzig)، وهي دويلة شبه مستقلةٍ تحت إشراف عصبة الأمم مع شؤونٍ خارجيةٍ تحت السيطرة الپولندية إلى حد كبير. شملت حقوق پولندا أيضاً مجانيّة استخدام الميناء [دون رسوم]، ومكتبَ بريدٍ پولندي، وحاميةً پولنديةً في منطقة ڤسترپلاته (بالألمانية: Westerplatte)، واتحاداً جمركياً مع پولندا التي منحت كذلك الحق بتطوير وصيانة وسائل النقل والاتصالات ومرافق المرفأ. [105] اعتبر ذلك مستوحىً من تاريخ المدينة التي كانت لقرونٍ جزءاً من پولندا، وتشاركت معها المصالح الاقتصادية، وازدهرت بفضلها، وتمتعت معها باستقلاليةٍ واسعةٍ.[106]
كان لمدينة دانتزيچ الحرة دستورها ونشيدها الوطني وبرلمانها وحكومتها، واللغة الرسمية فيها كلتا الألمانية والپولندية، وأصدرت طوابعها الخاصة وعملتها «چولدن دانتزيچ» (بالألمانية: Danzig Gulden). تقرر أن تكون للمدينةِ شبهِ المستقلةِ [1952 كم² بما فيها 58 كم² مسطح مائي] جنسيتها الخاصة بناءً على الإقامة، وبذا فقدَ السكانُ الألمان جنسيتهم الألمانيّةَ مع إنشاءِ الإدارةِ الحديدة، لكنهم مُنحوا الحقَّ في الحصولِ عليها مرةً أخرى في غضون العامين الأولين من وجودِ الدويلة، وكان على أي امرئٍ يرغب في الاحتفاظِ بالمواطنةِ الألمانيّةِ ترك ممتلكاته ونقل إقامته خارج منطقة دانتزيج الحرة إلى مناطقَ أخرى من ألمانيا.[104]
في إحصاءِ الأولِ من نوفمبرَ/تشرينَ الثاني 1923 كانت نسبة الناطقين بالألمانية لغةً أمّ 95,03% (نسبة 94,5% من هؤلاء مسجلون مواطني دانتزيچ) من أصل 366,730 نسمة هم تعدادُ سكان الدويلة.[107] وخلافاً لإقليم السار -الذي نُصّ على تنظيم استفتاءٍ بحقه بعد خمسة عشر عاماً- لم تلحظِ المعاهدة أجَلاً ما لإنهاء هذا الوضع (دام من 15-11-1920 إلى 31-8-1939) والذي كان السبب المباشر للغزو النازي لپولندا (أزمة دانتزيچ 1939) واندلاع الحرب العالمية الثانية.[هامش 24] أدى هذا الوضع [الهزيلُ والمقلقلُ] إلى توترٍ كبيرٍ بين الإدارة الألمانيةِ المحليةِ وجمهوريِّة پولندا ولا سيما بعد صعود النازية.[108] ضُمّتِ المدينة إلى پولندا بعدَ الحربِ العالمية الثانية وهَجّر الروس من تبقى من الأهلين الألمان (حوالي 120 ألفاً) واستُبدِل بهم نازحون پولنديون من الشرق. كانت دانتزيچ مثالاً تاريخياً على تسوياتٍ فاقمت المعضلات عوضاً عن حلها.
هذا فيما يتعلقُ بالتغييراتِ السياسيةِ في أوروپا.[109]
القيود العسكرية
[عدل]كانتِ المعاهدةُ شاملةً ومعقدةً من حيث القيودُ المفروضةُ على القواتِ المسلحةِ الألمانيّةِ بعدَ الحربِ. وكانتِ الأحكامُ تهدفُ إلى جعلِ الجيش الألماني غيرَ قادرٍ على العملِ الهجومي وتشجيعِ نزعِ السلاحِ الدولي.[110] [111] توجّبَ على ألمانيا أنْ تُسرّحَ عدداً كافياً من الجنودِ بحلولِ الحادي والثلاثَينَ (31) منْ مارسّ/آذارَ من العام 1920م لتتركَ جيشها لايزيدُ عنْ مئةِ ألفِ رجلٍ في سبعِ فرقِ مشاةٍ وثلاثِ فرقِ فرسانٍ كحدٍّ أقصى. حدّدتِ المعاهدةُ تنظيمَ الفرقِ ووحداتِ الدعمِ، وكانَ مقرراَ أيضاً حلُّ هيئةِ الأركانِ العامة.[112] [هامش 25] واقتصرتِ المدارسُ العسكريّةُ لتدريبِ الضباطِ على ثلاثةٍ، مدرسةٌ واحدةٌ لكلِ سلاحٍ، وتقررَ إلغاءُ التجنيد الإجباري. وجبَ على ألمانيا كذلكَ الاحتفاظُ بالجنودِ وضباطِ الصفِّ مدةَ اثنيْ عشرَ عاماً على الأقلِّ، والضباطِ مدةً لاتقلُّ عنْ خمسةٍ وعشرينَ عاماً معَ منعِ الضباطِ السابقينَ من حضورِ التدريباتِ العسكريّة. كلُّ ذلكَ بهدفِ منعِ ألمانيا من تكوينِ طاقمٍ فتيٍّ كبيرٍ من الرجالِ [الاحتياطِ] المدربينَ، وكانَ عددُ الرجالِ المسموحِ لهم بمغادرةِ الخدمةِ العسكريةِ مبكراً محدوداً.[113]
جرى كذلكَ تقليلُ عديدِ الموظفينَ المدنيينَ الذين يدعمونَ الجيشَ وتقليصُ قوى الشرطةِ إلى حجمها قبلَ الحربِ معَ زياداتٍ تقتصرُ على التناسبِ معَ التزايد السكانيّ فحسب، أما القواتُ شبهُ العسكريّةِ فممنوعة.[114] [هامش 26]
تقررَ أيضاً أنْ تكونَ منطقة الراينلاند منزوعةَ السلاحِ، مع هدمِ جميعِ التحصيناتِ فيها وإلى مسافةٍ تتراوحُ في أقصاها حتى خمسينَ كم (31 ميلاً) شرقَ نهر الراين ومنعِ بناءِ تحصيناتٍ جديدةٍ، وأن تكونَ المنطقةُ غربَ الراينِ خلواً من أيِّ تحصيناتٍ حربيةٍ أو قواتٍ عسكرية.[115] ودُمرتِ الهياكلُ والتحصيناتُ العسكريّةُ في جزيرتيْ «هِليغولاند» و«دوني» [في بحر الشمال].[116] وحُظرَ على ألمانيا تجارةُ الأسلحةِ، وفُرضتْ قيودٌ على أنواعِ الأسلحة وكمياتها، كما حُظِرَ تصنيعُ الأسلحةِ الكيميائيّةِ أو تخزينُها،[هامش 27] والعرباتِ المدرعةِ، والدباباتِ، والطائراتِ الحربيّة.[117] سُمحَ للبحريّةِ الألمانيّةِ بستِّ بوارجَ مدرعةٍ مسبقاً [أي ما قبل الهدنة]، واقتُصرَ على ستةِ طرّاداتٍ خفيفةٍ كحدٍّ أقصى (بما لايتجاوزُ مئةً وستةَ آلافِ (6,100) طنٍّ)، واثنتي عشرةَ مدمّرةً (لاتتجاوزُ 810 أطنانٍ)، واثني عشرَ زورق طوربيدٍ (بما لايزيدُ عن مئتيْ (200) طنٍّ)، وحُظرتِ الغواصاتُ مطلقاً.[118] كانَ مقرراً ألا تتجاوزَ القوةُ البشريةُ العاملةُ في البحريّةِ خمسةَ عشرَ ألفَ رجلٍ بما فيها أفرادُ الأسطولِ والدفاعاتِ الساحليّةِ ومحطاتِّ الإشارةِ والإدارةِ والخدماتِ البريّةِ الأخرى والضباطِ والرجالِ من جميعِ الرتبِ، ولايُسمحْ لتعدادِ الضباطِ وضباطِ الصفِّ أنْ يتجاوزَ ألفاً وخمسمئةِ رجلٍ. وفُرضَ على ألمانيا إيقافُ تشغيلِ ثماني سفنٍ حربيّةٍ وثمانيةِ طرّاداتٍ خفيفةٍ واثنتينِ وأربعينَ مدمرةً وخمسينَ زورق طوربيدٍ. ونزعُ سلاحِ اثنتينِ وثلاثينَ سفينةَ مساعدةٍ وتحويلُها إلى الاستخدامِ التجاري. ومنعتِ (المادة 198) ألمانيا من امتلاكِ قواتٍ جويّةٍ بما في ذلكَ قوةٍ جويةٍ-بحريةٍ[هامش 28] وطالبتها بتسليمِ جميعِ الموادِ الجويّةِ ذاتِ الصلة. بالتزامنِ معَ ذلكَ مُنعت ألمانيا من تصنيعِ أو استيرادِ الطائراتِ أو الموادِ ذاتِ الصلةِ لمدةِ ستةِ أشهرٍ بعدَ توقيعِ المعاهدة.[119]
وفي مؤتمر سان ريمو (19-26 أبريل/نيسان 1920) -بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة بصفة مراقب- بُحثت التوترات الفرنسية-الألمانية في حوض الرور والمتعلقة بشروط معاهدةِ ڤرساي، وجرى التأكيد على رفض السماح لألمانيا بزيادةِ حجم جيشها.[120]
التعويضات
[عدل]رسمٌ أمريكي ساخرٌ (1921)[هامش 29]
في المادّةِ 231 فاتحةِ القسم الخاص بالتعويضات أُلزمت ألمانيا وحليفاتُها بتحمل كامل المسؤوليّةِ عنِ جميع الخسائرِ والأضرارِ التي تعرضت لها دولُ الحلفاءِ وشركاؤها ومواطنوها والتي سبّبتها الحربُ «نتيجةَ... عدوانِ ألمانيا وحلفائِها»، وقد صِيغت لتكون أساساً قانونياً لإقرار تعويضات الحرب العالمية الأولى. طالبتِ المعاهدةُ ألمانيا بتعويضِ الحلفاءِ، وشُكِلتْ «لجنة التعويضاتِ الدوليّة» منْ جانبِ الحلفاءِ لتقديرِ المبلغِ الذي يتعينُ على ألمانيا أداؤه بدقةٍ، والشكلِ الذي ستتخذُه المدفوعات. طُلبَ منَ اللجنةِ «منحُ الحكومةِ الألمانيةِ فرصةً عادلةً لإسماعِ صوتِها»، وتقديمِ استنتاجاتها بحلولِ الأولِ من مايو/أيارَ عامَ 1921، وفي غضونِ ذلكَ طلبتِ المعاهدةُ من ألمانيا دفعَ ما يعادلُ عشرينَ مليارِ ماركٍ ألمانيٍّ ذهبيٍّ (خمسةُ ملياراتِ دولارٍ أمريكي) في صورةِ ذهبٍ أو سلعٍ أو سفنٍ أو موادَّ خامٍ أو أوراقٍ ماليةٍ أو سواها.[121] أقر هذا في المعاهدة وقتما كانت ألمانيا على شفا المجاعة بسبب الحصار فضلاً عن وفيات جائحة الإنفلونزا الإسبانية.
حدّدتِ اللجنةٌ التعويضاتِ في التاسعِ والعشرينَ من ينايرَ/كانونَ الثاني للعامِ 1921م بتسعةٍ وستينَ ومئتيْ (269) مليارِ ماركٍ ألمانيٍّ ذهبيٍّ تُؤدى على اثنينِ وأربعينَ (42) قسطٍ سنويٍّ،[هامش 30] ثمَّ حدّد جدولُ مدفوعاتِ لندن في 5 مايو/أيار 1921 مجموعَ التعويصات المطلوبة من دول المركز جمعاء باثنينِ وثلاثينَ ومئةِ (132) مليارِ ماركٍ ذهبيٍّ كحلٍّ وسطٍ ما بين المطالبات والتقييمات البريطانية والفرنسية والبلجيكية. أقرّتِ اللجنة بأن دول المركز لن يمكنها أداء سوى القليل،[هامش 31] وأن العبء سيقع على عاتق ألمانيا. توجب على ألمانيا -بموجب جدول مدفوعات لندن- سداد خمسين مليار ماركٍ ذهبيٍّ حُسمت منها تسديدات ما بعد الهدنة وحتى تاريخه (الفترة ما بين 1919 و1921) فأضحى الإجمالي وقتها واحداً وأربعين (41) مليار.[122][123][هامش 32]
كان يمكن لألمانيا -بغية الوفاء- أن تدفع نقدياً أو عينياً منتجاتٍ كالفحم، والأخشاب، والأصباغ الكيميائية، والأدوية، والماشية، والآلات الزراعية، ومواد البناء، وآلات المصانع. مثلاً ساعدت ألمانيا في ترميم مكتبة جامعة لوڤان في بلجيكا -التي دمرها الألمان في 25 أغسطس/آب من العام 1914- وقد حُسمت التكاليف من مبلغ التعويضات. كما جرى أخذ التغييرات الإقليمية التي فرضتها المعاهدة في الاعتبار.[124][125] تطلّب الجدول تسديد خمسين ومئتيْ (250) مليون دولارٍ أمريكيٍّ في غضون خمسة وعشرين يوماً، ثم خمسمئة (500) مليون دولارٍ سنوياً، بالإضافة إلى ستةٍ وعشرين (26) في المئة من قيمة الصادرات الألمانية. كان من المقرر أن تُصدر الحكومة الألمانية أسناداً بفائدة خمسةٍ في المئة، وأنشأت صندوق غرقٍ[هامش 33] بنسبة واحدٍ في المئة لدعم دفع التعويضات.[126]
وأدى السدادُ الشحيحُ إلى عمليةِ احتلال الرور (بالألمانية: Ruhrbesetzung) المنطقةِ الصناعيّةِ الغنيةِ من قبلِ القوات الفرنسية والبلجيكية (من 11 ينايرَ/كانونَ الثاني 1923 إلى 25 أغسطسَ/آبَ 1925) بدعوى إدارةِ المناجمِ والصناعاتِ فيها وتشغيلِها لتحصيلِ التعويضاتِ، لكنَّ تطبيقَ «المقاومةِ السلبيةِ» من قبلِ الألمانِ أدى إلى فشلِ الحملةِ، وفي الأثناء جرت إعادةُ هيكلةِ الديون بموجبِ «خطة دوز» (بالإنجليزية: Dawes) في أبريلَ/نيسانَ من العام 1924. ثم وبناءً على طلبٍ ألمانيٍّ في عام 1928 خُفّضَ المبلغُ الإجماليُّ إلى اثنيْ عشرَ ومئةِ (112) مليارِ ماركٍ ذهبيٍّ فيما سُمّيَّ «خطةَ يونغ» (بالإنجليزية: Young) عامَ 1928، والتي أقرّت في مؤتمر لاهاي في العام 1929.
كانت ألمانيا تُعوّل في السداد بنسبةٍ كبيرةٍ على تمويل المصارف الأمريكية، وكان الحلفاء يسددون بهذه التعويضات جزءاً وافراً مما عليهم من قروضٍ للولاياتِ المتحدةِ تراكمت بسبب ظروف الحرب. وفجأةً انهارت هذه الحلقة باندلاع أزمة «الركود العظيم» (بالإنجليزية: Great Recession) بدءاً بالثلاثاء الأسودِ (29-10-1929) في «وول ستريت». كانت ألمانيا ثانيَ دولةٍ تصيبها الأزمة عقب اندلاعها وأكبرَ المتضررين الأوروبيين منها، وتوقف التسديد مجدداً. وفي العام 1934 (بعد أكثر من خمسة عشر عاماً من تسديد القروض) عادت المديونية البريطانية لأمريكا لتصل إلى 4.4 مليون دولار.[127] [هامش 34]
عامَ 1931 عُلّق التسديد لعامٍ كاملٍ بسببِ الأزمةِ الاقتصاديةِ الخانقة، ثم اتُفقَ في مؤتمرِ لوزانَ (1932) على إيقافه إلى أجلٍ غير مسمىً، وبعد تسلمهِ الحكم رفضَ هتلر الدفعَ بدعوى رفضه «إملاءَ فرساي».[هامش 35] دفعت ألمانيا في الفترة (19-1931) أقلَّ منْ واحدٍ وعشرينَ (21) مليار ماركٍ ألمانيٍّ من كاملِ التعويضات، وبحسبِ خبراءٍ اقتصادييَّنَ فإنهُ بالرغمِ من تخفيضِ المبلغِ الكليِّ لحجمِ التعويضاتِ إلا أنهُ يبقى مغالىً فيه، ونتجَ عن ذلكَ أن أثقلتِ الديونُ الاقتصادَ الألمانيَّ المرهَقَ بسببِ الحربِ والحصارِ ممَّا تسبَّبَ بدرجةٍ عاليةٍ منَ الاستياءِ والسخطِ والغليانِ الشعبيِّ فأسهمَ -معَ العواملِ الأخرِ في النهايةِ- بإشعالِ ضرامِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ.
وبموجبِ اتفاقِ لندن (27-2-1953) الذي قلصَ المبالغَ المتبقيةَ من التعويضاتِ إلى النصفِ استأنفت ألمانيا الغربيّةُ -وحدها- دفعَ تعويضاتِ الحربِ العالميةِ الأولى، والتي كانت أسناداً سياديةً ألمانيةً أُصدِرت ما بينَ عامي (24-1930) وبيعت لمستثمرينَ أجانبَ (معظمهم أمريكان) ولم تسدد.[هامش 36] وفي الثالثِ من أكتوبرَ/تشرين الأولِ (2010) الذكرى العشرين لتوحيد الألمانيّتين سُدّدَ آخرُ قسطٍ منها.[128] وكان أول قسطٍ قد سُدد في يونيو/حزيران من العام 1921.[129]
الضمانات
[عدل]لضمانِ امتثال ألمانيا قررتِ المعاهدة أنْ تحتلَّ قواتُ الحلفاءِ منطقةَ «الراينلاند» ورؤوسَ الجسورِ شرقَ نهرِ الراين لخمسةَ عشرَ عاماً،[130] وإذا لم ترتكبْ ألمانيا أيَّ عدوانٍ، فسيجري انسحابٌ مرحليٌّ؛ يُخلى رأسُ جسر كولونيا والمنطقةُ الواقعةُ شمالَ نهرِ الرورِ وعلى طوله بعدَ خمسِ سنواتٍ (المنطقة الشمالية من حوض الراين في ألمانيا، [أخليت في العام 1926])، ويخلى رأس الجسر في كوبلنز والأراضي الواقعةُ إلى الشمالِ منهُ بعدَ عشرِ سنواتٍ (المنطقة الوسطى من حوض الراين، [أخليت في العام 1929])، وبعدَ خمسةَ عشرَ عاماً يتمُّ سحبُ ما تبقى منْ قواتِ الحلفاء [أخليت في العام 1930].[131] وفي حالِ تراجعت ألمانيا عنِ التزاماتِ المعاهدةِ، يعادُ احتلالِ رؤوسِ الجسورِ على الفور.[132] وطبقاً للمواد 42 و43 و44 حُظر على ألمانيا تشييد أي حصونٍ أو صيانتها غربي نهر الراين وحتى الحدود الدولية، وشرقيّه حتى مبعدة خمسين كيلو متراً عن النهر، «وتُعد مخالفة ألمانيا لتلك البنود بأيّ شكلٍ من الأشكال عملاً عدوانياً وإخلالاً بالسلام العالمي». بعد انسحاب فرنسا وبلجيكا من منطقة الرور في 25 أغسطس/آب من العام 1925 تداعتِ الدول الأربع ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا إلى اتفاقيةٍ جديدةٍ لرسم العلاقات بينها، فجاءت اتفاقيّاتِ لوكارنو (1925) في لوكارنو لتنص على أنّ بند نزع السلاح في منطقةِ الراينلاند سيبقى سارياً إلى أجلٍ غير مُسمّى.[133]
وُصفت اتفاقيّاتِ لوكارنو أو معاهدة لوكارنو بالمهمة باعتبارها موافقةً طوعيّةً من جانب ألمانيا في مقابلِ «إملاءِ ڤرساي».[134] وبموجبها تعهدت بريطانيا وإيطاليا بالحفاظ على ترسيم الحدود الألمانية الفرنسية، وصون المنطقة منزوعة السلاح في الراينلاند ضد أيّ انتهاكٍ صارخ،[135] مع أنه لم يُذكر تحديد واضح لما قد يُعتبر انتهاكاً صارخاً (بالإنجليزية: Flagrant Violation). قررتِ المعاهدة كذلك أنه إذا حاولت ألمانيا مهاجمة فرنسا فإن بريطانيا وإيطاليا مُلزمتان بمساندة فرنسا، وبالمثل إذا هاجمت فرنسا ألمانيا فإن بريطانيا وإيطاليا مُلزمتان بمساندة ألمانيا،[136] [وهو تطور في موقف الحلفاء جاء بعد الاحتلال الفرنسي-البلجيكي للرور]. وصف المؤرخ الأمريكي چرارد واينبرچ نزع التسلح في الراينلاند بأنه «أهم معاهدةِ سلامٍ صُدّق عليها في تاريخ أوروپا» إذ جعلت هجوم ألمانيا على جيرانها في الغرب أمراً مستحيلاً، فوجود منطقةٍ منزوعةِ السلاح يعني عجز ألمانيا عن الدفاع عن حدودها الغربية، واستحالة إمكانية هجومها على جيرانها في الشرق لأنّ ذلك سيتيح الفرصة أمام فرنسا لشنّ هجوم مضادٍّ مدمّرٍ إذا ماحاولت ألمانيا غزوَ أيّ دولةٍ من الدول الواقعة تحت الحماية الفرنسية بموجب نظام الحلف الفرنسي في أوروپا الشرقية، أو ما دًعي «الحاجز الوقائي» (بالإنجليزية: Cordon Sanitaire) مجازاً.[137] [هامش 37] أدت دبلوماسية وزير الخارجية الألماني چوستاڤ اشترِزِمان (بالألمانية: Stresemann) واتفاقيات لوكارنو إلى انفراجٍ في السياسة الأورپية، وانضمام ألمانيا إلى عصبة الأمم في العام 1926.
أعلن وزير الخارجية الألماني اشترِزِمان في العام 1929 أن ألمانيا ستتوقف عن دفع التعويضات، ولن تُصادق على خطة يونغ (1928) لإعادةِ جدولتها مالم يوافقِ الحلفاءُ أولاً على الانسحاب من الراينلاند بحلول العام 1930. انعقد مؤتمر لاهاي (1929) حول التعويضات الألمانية، وأقرَّ الاقتراح البريطاني بتخفيضها وإخلاء الراينلاند من الجنود الإنجليز والفرنسيين بحلول العام 1930. وبذلك غادر آخرُ جنديٍّ بريطانيٍّ أواخرَ العام 1929 وآخِرُ جنديٍّ فرنسيٍّ في يونيو/حزيران 1930. كانت الراينلاند طيلة فترة احتلالها من قبل الحلفاء تُعد ضماناً للأمن القومي الفرنسي، فمن خلالها يمكن للفرنسيين أن يتصدََوا لأيّ محاولةٍ صريحةٍ من قبلِ ألمانيا لإعادة تسليح الراينلاند عن طريق ضمها لفرنسا. ولكن في اللحظة التي غادر فيها الجنودُ الفرنسيون لم يعد للراينلاند هذا الدور ما فسح الفرصة أمام الألمان لإعادة عسكرتها. وكان قرار فرنسا بتشييد خط ماجينو (بالإنجليزية: Maginot Line) في العام 1929 بمنزلةِ اعترافٍ ضمنيٍّ بأنّ إعادة التسليح الألماني للراينلاند على مستوىً شاملٍ ليست إلا مسألةُ وقتٍ فقط، ومن المرجّح أنّ تبدأ في الثلاثينات،[138][139] لقد أشار «المكتب الثاني» [الاستخبارات العسكرية] في الأركان العامة الفرنسية إلى أنّ ألمانيا كانت تنتهك معاهدة ڤرساي باستمرارٍ على مدى العشرينات مستعينة بالاتحاد السوڤييتي، والمتوقع لها أن تستمر في انتهاكاتها -إنما بشكلٍ صريحٍ فحسب- بعد خلو الراينلاند من القوات الفرنسية[140] (أعلنت ألمانيا النازية في 7 مارس/آذار 1936 عن إعادة تسليح الراينلاند). أدى بناء خط ماجينو بدوره إلى تقليل أهمية منطقة الراينلاند من وجهة نظر الأمن [القومي] الفرنسي.
في اجتماعٍ لقادة الجيش القيصري (بالألمانية: Reichswehr) برئاسة فون هندنبرچ في ديسمبر/كانون الأول من العام 1918 (بدأتِ الهدنة في 11-11-1918) تقرر أنّ الهدف الرئيس منذ اللحظة إعادة بناءِ الجيش لشنِّ حربٍ جديدةٍ للفوز بمنزلة «القوة العالمية» التي سعى لها الرايخ الألماني رغم فشله في الفوز بآخر حربٍ له. على مدار العشرينات وحتى مطلع الثلاثينات كان الجيش الألماني يخطط لتدمير فرنسا وحليفتها بولندا، واقتضت هذه الخطط بالضرورةِ إعادة عسكرة الراينلاند. اتخذتِ الحكومة الألمانية عدّة خطواتٍ ممنهجةٍ استعداداً لإعادة العسكرة تلك مثل صيانةِ المعسكرات الحربيةِ [الخاليةِ] بصفةٍ دوريةٍ، وإخفاءِ المعدات العسكرية في مخازنَ سريةٍ، وتشييدِ الأبراج بدعوى مراقبة الحرائق وجباية الجمارك لكن الهدف الحقيقي منها كان تحويلها إلى أبراج مراقبةٍ وصواري بنادقَ رشاشةٍ عند إعادة نشر الجيش على طول جبهة الحرب.[141]
احتلال الراينلاند
[عدل]أواخرَ العام 1918 دخلتِ القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والبلجيكية منطقة الراينلاند لفرض الهدنة.[17] قبل توقيع المعاهدة كان قوام قوة الاحتلال حوالَيْ أربعين ألفاً وسبعمئة ألف (740,000) رجلٍ،[142][143][144][145] وبعد التوقيع انخفض العدد بشكلٍ كبيرٍ حتى بلغ عديدها بحلول العام 1926 ستة آلافٍ وسبعين ألف (76,000) مقاتلٍ فحسب.[146] وخلال جانبٍ من مفاوضات العام 1929 التي أضحت «خطة يونغ» تفاوض اشترِزِمان وأريستيد برياند على الانسحاب المبكر لقوات الحلفاء من الراينلاند.[147] وفي 30 يونيو/حزيران من العام 1930 بعد تبادل الخطب وإنزال الأعلام انسحبتِ القوات الأخيرة للاحتلال الأنجلو-فرنسي-بلجيكي من ألمانيا.[148]
احتفظت بلجيكا بقوة احتلالٍ قوامها حوالي عشرة آلاف (10,000) جنديٍّ خلال السنوات الأولى ومقر قيادتها في آخن،[143] ثم انخفض هذا العدد إلى 7,102 بحلول العام 1926، واستمر في الانخفاض نتيجة التطورات الدبلوماسية.[146][149]
دخل الجيش البريطاني الثاني البالغ قوامه خمسة وسبعون ألفاً ومئتا ألف (275,000) جنديٍّ ألمانيا أواخرَ العام 1918.[144] وفي مارس/آذار من عام 1919 دعيت هذه القوة باسم «جيش الراين البريطاني» (BAOR) ومقر قيادتها قلونيا، ثم تضاءل العدد الإجمالي لهذه القوات بسرعةٍ إذ سُرّح الجنود القدامى واستبدل بهم جنودٌ عديمو الخبرة أكملوا تدريبهم الأساسي بعد توقف الأعمال القتالية.[150] بلغ «جيش الراين البريطاني» بحلول العام 1920 من 40,594 رجلاً فقط، وفي العام التالي خُفّض عديده إلى 12,421 مقاتلٍ، وتذبذب حجمه خلال السنوات التالية، لكنه لم يتخطَّ أبداً تسعة آلاف رجلٍ.[151] لم يلتزمِ البريطانيون بجميع عملياتِ الانسحاب الإلزامي من الأراضي كما تمليه معاهدة ڤرساي بسبب عدم وفاء ألمانيا بالتزاماتها التعاهدية.[152] ومع أنه بُحثَ في الانسحاب الكامل، إلا أنه رُفض لصالح البقاء لمواصلة الجهود لكبح الطموحات الفرنسية ومنع إنشاء جمهورية راينلاند المستقلة.[153]
كان «جيش الراين الفرنسي» في البداية بقوام خمسين ألفاً ومئتي ألف (250,000) مقاتلٍ بما في ذلك -في ذروته- أربعين ألفاً (40,000) من القوات الاستعمارية الإفريقية (بالفرنسية: Troupes Coloniales) [,التي شكلت فيما بعد «الفيلق الأجنيي» في الجيش الفرنسي]. وبحلول العام 1923 انخفضت قوة الاحتلال الفرنسية -ومقر قيادتها في ماينز- إلى ما يقرب من ثلاثين ألفاً ومئة ألف (130,000) رجلٍ، بما في ذلك 27,126 جنديٍّ إفريقيٍّ.[145] بلغ تعداد القوات ذروته مرةً أخرى خمسين ألفاً ومئتي ألف (250,000) أثناء احتلال الرور قبلما يتناقص ثانيةً إلى ستين ألفاً (60,000) بحلول العام 1926.[146][154] اعتبر الألمان استخدام القوات الاستعمارية الفرنسية عملاً متعمَّداً بهدف الإذلال، واستغلوا وجودها في حملةٍ دعائيةٍ أطلق عليها «العار الأسود» (بالألمانية: Die schwarze Schmach) استمرت طوال العشرينات والثلاثينات، ولكن شهدت ذروتها في عاميْ 1920 و1921. أوردت مذكرة الحكومة الألمانية -على سبيل المثال- في العام 1921 بالتفصيل ثلاثمئة (300) عمل عنفٍ من قبل القوات الاستعمارية تضمنت ستين وخمس (65) جرائمِ قتلٍ، وسبعين ومئة (170) جريمةٍ جنسيةٍ. أبلغ الجنرال هنري توريمان ألين قائدُ القوات الأمريكية وزيرَ الخارجية الأمريكي أنه منذ بدء الاحتلال وحتى يونيو/حزيران من العام 1920 كان ثمة ستون وست (66) حالات اتهامٍ رسميةٍ ضد القوات الاستعمارية الملونة، من بينها عشرون وثمانية (28) إداناتٍ، واعترف بوجود ستين حالةً أخرى غير مبلغٍ عنها.[155] بيد أن الإجماع التاريخي على أن الاتهاماتِِ مُبالغٌ فيها لأغراضٍ سياسيةٍ ودعائيةٍ، وأن أفراد القواتِ الاستعماريةَ [الإفريقيةَ] أبدَوا سلوكاً أفضلَ بكثيرٍ من نظرائهم البيض.[145] يقدر أن نحو خمسمئةٍ إلى ثمانمئةٍ (500-800) من أطفال «سِفاح راينلاند»[هامش 38] وُلدوا نتيجة المعاشرة ما بين ألمانياتٍ وأفراد القوات الاستعمارية، والذين تعرضوا لاحقاً للاضطهاد.[156]
تشكل الجيش الثالث الأمريكي من القوة الموجودة في ألمانيا بعديد مئتي ألف 200,000 رجلٍ ومقر قيادته في كوبلنز. وفي يونيو/حزيران من العام 1919 سُرّح هذا الجيش وتقلصت قوة الاحتلال الأمريكية إلى خمسةَ عشرَ ألفاً (15,000) بحلول العام 1920.[157][142] قبل تنصيب «وارن جي هاردينغ» رئيساً في 4 مارس/آذار من العام 1921 خفض ويلسون الحامية إلى خمسمئةٍ وستة آلاف 6500 رجلٍ،[142] لكن بعد الاحتلال الفرنسي-البلجيكي لمنطقة الرور في 7 يناير/كانون الأول من العام 1923 أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي تشريعاً لسحب القوة المتبقية،[158][159] وبدأتِ الحامية الأمريكية مغادرتها للراينلاند في 24 يناير/كانون الأول من العام 1923، وأتمت انسحابها في أوائل فبراير/شباط وسلمت منطقتها للفرنسيين.[160]
المنظمات الدولية
[عدل]خُصّصَ الجزءُ الأولُ منَ المعاهدةِ -إضافةً إلى جميعِ المعاهداتِ اللاحقةِ الموقعةِ معَ دولِ المركزِ- لميثاقِ عصبة الأمم الذي نصَّ على إنشاءِ العصبةِ وآلية عملها، وهي منظمةٌ دوليةُ الصفةِ مهمتها التحكيمُ في النزاعاتِ الدوليّة (الجزء الأول)،[161] [هامش 39] ونظمَ الجزءُ الثالثَ عشرَ تأسيسَ منظمة العمل الدولية لتنظيمِ ساعاتِ العملِ، بما في ذلكَ الحدُّ الأقصى ليومِ العملِ وأسبوعهِ، وتنظيمِ عرضِ العملِ (بالإنجليزية: Labour Supply)، والحمايةِ منَ البطالةِ، وتوفيرِ أجرٍ معيشيٍّ، وحمايةِ العاملِ منَ الأمراض والعلل والإصاباتِ الناجمةِ عنْ عملهِ، وحمايةِ الأطفالِ والشبابِ والنساءِ، والتوفيرِ لأجلِ الشيخوخةِ والإصابةِ، وحمايةِ مصالحِ العمّالِ عندَ العملِ خارجَ بلدِهم، والاعترافِ بمبدأ حريّةِ تكوينِ الجمعياتِ، وتنظيمِ التعليمِ المهنيِّ والتقانيِّ، وتدابيرَ أخرى[162] كما دعتِ المعاهدةُ الموقعينَ إلى التصديقِ على اتفاقيّةِ «الأفيونِ» الدولية.[163]
الاستعمار والانتداب
[عدل]إيريك هوبزباوم: عصر التطرفات، القرن العشرون الوجيز/ ص 84.
لم تكنِ المستعمراتُ الألمانيةُ كثيرةً، فقد أتمتْ ألمانيا توحُّدها عامَ 1871م، ودخلتِ السباقَ الاستعماريَّ متأخرة، وكان من أسبابِ قيامِ الحربِ المنافسةُ الألمانيةُ لإنشاءِ إمبراطوريةٍ استعماريةٍ فيما وراء البحار في وقتٍ كانَ العالمُ فيهِ قدِ اقتُسمَ، أما المستعمراتُ الألمانيةُ القليلةُ فقدِ استوليَ عليها أثناء الحربِ لحرمان ألمانيا من مواردها، ولكن سُوّيَ وضعُها قانونياً بموجبِ معاهدة ڤرساي. طالبتِ المادة 119 من المعاهدة ألمانيا بالتخلي عن السيادة على المستعمرات السابقة، وحوّلتِ المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم تلك الأراضي إلى العصبة التي وزعتها على دول الحلفاءِ بناءً على نظامِ الانتدابِ (بالإنجليزية: Mandate).[164]
صاغ نظامَ الانتدابِ «مجلسُ العشرة» في 30 ينايرَ/كانونَ الأول من العام 1919، وأحيلَ من بعدُ إلى عصبة الأمم. وُجدتْ أربعَ عشرةَ منطقةَ انتدابٍ وُزّعت على سبع دولٍ بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وجنوب إفريقيا ونيوزيلندا وأستراليا واليابان. نُظمتِ الانتداباتُ وفقاً للمادة 22 من ميثاق العصبة بحيث تشرف لجنة الانتداب الدائمة في عصبة الأمم على تنظيم استفتاءاتٍ عامةٍ في المناطق المتنازَع عليها فقط ليقرر شعبها إلى أي بلدٍ ينضم،[هامش 40] وقد صُنفت في ثلاثة أنواعٍ متدرجةٍ من الانتداب: [164]
- انتدابات (أ): وتنطبق على أجزاءٍ من الدولةِ العثمانيةِ القديمة، وهي المجتمعات التي:
- «... وصلت إلى مرحلةٍ من التطور بحيث يمكنها القيام كدولٍ مستقلةٍ معترفٍ بها، وتخضع بصورةٍ مؤقتةٍ للمساعدة والنصح الإداري من قبل الانتداب إلى أن يحين الوقت الذي تصبح فيه قادرةً على النهوض وحدها، وتكون رغبات هذه المجتمعاتِ هي العامل الرئيس في اختيار الدولةِ المنتدَبة [وهو مالم يُراعَ في كلا بلاد الشام والعراق].» (المادة 22).
- اعتُبرت هذه الدول مستقلةً ولكنها ستخضع لسلطةٍ إلزاميةٍ حتى بلوغها مرحلة النضج السياسي.[120]
- انتدابات (ب): وتنطبق على المستعمرات الألمانيّةِ السابقةِ التي تتحمل عصبة الأمم مسؤوليتها بعد الحرب العالمية الأولى. والتي توصف بأنها «الشعوب» التي:
- «... يتوجّب وجود دولةٍ منتدَبةٍ مسؤولةٍ عن إدارة أراضيها -بشرط ضمان حرية الضمير والدين- للحفاظ على النظام العام والآداب العامة، وحظر الانتهاكات مثل تجارةِ العبيد، والاتّجار بالأسلحةِ والخمور، ومنع إقامةِ تحصيناتٍ أو قواعدَ عسكريةٍ وبحريةٍ والتدريب العسكري للمواطنين لأغراضٍ أخرى غير الشرطة والدفاع عن أراضيها، وتأمين تكافؤ فرصٍ للتجارةِ مع باقي الدول الأعضاءِ في عصبة الأمم.» (المادة 22).
- انتدابات (ج): وتشمل جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا) وبعض جزر جنوب المحيط الهادي، والتي تديرها الدول الأعضاء في عصبة الأمم، وصنّفت على أنها «الأراضي» التي:
- «... بسبب تناثر سكانها، أو صغر حجمها، أو بعدها عن مراكز الحضارة، أو المتواصلة جغرافياً مع أراضٍ للدولة المنتدَبة، أو لظروفٍ ما أخرى يُفضل أن تدار وفقاً لقوانين الدولة المنتدَبة على أجزاءٍ لا تتجزأ من أراضيها مع مراعاة الضمانات المذكورة أعلاه لصالح السكان الأصليين.» (المادة 22).
المستعمراتُ الألمانيّةُ شرقَ إفريقيا (بالألمانية: Deutsch-Ostafrika) | المستعمراتُ الألمانيّةُ جنوبَ إفريقيا (بالألمانية: Deutsch-Südafrika) | المستعمراتُ الألمانيّةُ غربَ إفريقيا (بالألمانية: Deutsch-Westafrika) | ||||||||||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|
* تنچانيقا: استولتْ عليها بريطانيا 1922، (استقلتْ (1961) وبعدَ ضمها «سلطنةَ زنجبارَ» (1964) أصبحتْ تنزانيا).
| * ناميبيا حالياً (باستثناء خليج والفيس البريطاني) ضمتها دولةُ جنوبِ إفريقيا، استقلتْ (1990م). | * الكاميرون الألمانية (1884-1914) (بالإنجليزية: Cameroon): كان الألمان هم من أطلقوا اسم "الكاميرون"، قسمتْ الكاميرونُ إلى جزءٍ فرنسيٍّ أضحى فيما بعدُ "الكاميرون" (بالفرنسية: Cameroun)، وجزءٍ بريطانيٍّ قسِّم لاحقاً إلى قسمينِ: أحدُهما انضمَّ إلى نيجيريا والآخرُ إلى الكاميرون.
|
وأعطيتِ اليابان جزرَ المحيطِ الهادي الألمانيةَ شمالَ خط الاستواء وهيَ جزر مارشال وكارولينا عدا غوام وماريانا، وكذلكَ ميناءَ «تشينجداو» أو «تسينغتاو» (بالألمانية: Tsingtau) في شبهِ جزيرةِ شاندونغ شرقيَّ الصينِ [حصلت ألمانيا عليها عامَ 1898 منَ الصينِ بموجبِ عقدِ إيجارٍ، واحتلتها اليابان أواخرَ 1914]. وأخذتْ أستراليا الجزرَ جنوبَ خطِّ الاستواءِ وشرقَ غينيا الجديدة [«بابوا غينيا» حالياً] ماعدا ساموا الألمانيةِ التي آلت إلى نيوزيلندا، كما حازَت بريطانيا ناورو.
كانتِ الروحُ التي سادت مؤتمرَ باريسَ وأنتجت معاهدةَ فرساي روحاً متعصبّةً منَ القرنِ التاسعَ عشرَ تدورُ في فلَكِ «المركزيةِ الأوروبيةِ» (بالإنجليزية: European Centralism) وتؤمنُ بتفوقِ «العرق الأبيض» واستعمار الشعوب الأخرى، ولمْ تكُ الادّعاءاتُ حولَ حق تقرير المصير وفسحِ المجالِ أمامَ الشعوبِ المقهورةِ لعرضِ مطالبِها لِتخصَّ سوى الشعوبِ الأوروبيةِ لا يُستثنى من هذا سوى ويلسونَ والأمريكانِ،[هامش 41] وبالرّغم من دعوةِ أطرافٍ كثيرةٍ من أنحاءِ العالمِ لحضورِ المؤتمرِ إلا أنَّ المفاوضاتِ بشأنِ العالمِ خارجَ أوروپا تمخّضتْ في النهايةِ عن إعادةِ توزيعِ المستعمراتِ، وكانتِ المملكة الحجازية الهاشمية مع دولِ الدومنيون الأربع المشاركةِ في الحرب الدولَ الوحيدةَ غيرَ الأوروپية التي نالت اعترافاً دولياً نتيجة اشتراكِها في المؤتمر، لكنْ كانَ لا بدَّ من حلِ مشكلةٍ تتعلقُ بالقانون الدولي وتتلخصُ في أنَ انتقالَ حيازةِ مستعمرةٍ من دولةٍ إلى أخرى تقتضي تعويضاً،[هامش 42] وبالتالي فالتخلي عنها -نتيجةَ حربٍ مثلاً- يَفترضُ أنْ يُقيَّمَ ويُدرجَ ضمنَ التعويضاتِ المترتبةِ على الطرفِ الخاسرِ، وهنا واجهتِ الحلفاءَ مشكلةٌ قانونيّةٌ فإذا قُوِّمتِ المستعمراتُ وأدخلتْ ضمنَ التعويضاتِ فإنَّ ألمانيا، والدولة العثمانية خاصّةً لن يتوجّبَ عليهما دفعُ مبالغَ كبيرةٍ بلْ ربما لا تدفعانِ شيئاً، وتضيعُ مكاسبُ ماديّةٌ معتبرةٌ على الحلفاءِ لا سيّما وأنهم جميعاً -خلا الولايات المتحدة الأمريكية- خرجوا من الحربِ على شفيرِ الإفلاسِ.[165]
وُلدَ الحلُّ على يدِ «سموتس» (بالإنجليزية: Smuts) عضوِ وفدِ جنوب إفريقيا، فاستناداً لحق تقرير المصير الذي غدا أحدَ أهدافِ مؤتمر پاريسَ للسلام فإنَّ على الدولِ المنتصرةِ أن تدرّبَ الشعوبَ التي كانتْ تحتَ سيطرةِ ألمانيا والدولة العثمانية على إدارةِ شؤونها ورعايةِ مصالحها وتأخذَ بيدِها من أجلِ نيلِ استقلالِها الناجزِ، وبذا وُلدَ مبدأ الانتداب أي انتدابُ إحدى الدولِ المنتصرةِ لتدريبِ شعبِ إحدى المستعمراتِ على حكمِ نفسهِ بنفسهِ، ولكيْ يكونَ الأمرُ مُقنَّناً من ناحيةِ القانون الدولي فقدِ اشْتُرطَ أنْ يكونَ ذلكَ بموافقةِ عصبة الأمم التي شكلت -من بعدُ- لجنةً للإشرافِ على حسنِ إدارةِ الدولةِ المنتدّبةِ دُعيَت لجنةَ الانتداباتِ كانتْ تستمعُ إلى تقريرٍ نصفِ سنويٍّ مُعَدٍّ من قبلِ دولةِ الانتدابِ عن سيرِ عمليَّةِ الانتداب، وكانَ ذلكَ يجري عادةً من دونِ أن يكونَ لأي هيئةٍ وطنيةٍ رأيٌ أو مشاركةٌ في وضعِهِ.[165]
بيّنَ وزيرُ خارجيةِ الولايات المتحدة الأمريكية روبرت لانسينچ عضوُ الوفدِ الأمريكيٍّ لمفاوضاتِ السلام أنَّ نظامَ الانتداب الذي ينصُّ على منحِ عصبةِ الأممِ للدولِ المنتصرةِ صكوكَ انتدابٍ على الشعوبِ المُحرَّرّةِ -لمساعدتِها على النهوضِ وتأسيسِ دولٍ وأنظمةٍ حديثةٍ- كانَ بكلِّ بساطةٍ وسيلةً أرْستّها القوى العظمى المنتصرةُ (عدا الولاياتُ المتحدةُ التي لم تشاركْ في عصبة الأمم) لتخفيَ تقاسُمَها لغنائمِ الحربِ، فإذا تمَّ الاستيلاءُ على أراضي العدوِّ بصورةٍ مباشرةٍ، فإنَّ قيمةَ هذهِ الأراضي -في ظلِّ القوانينِ الدوليةِ- ستكونُ بديلاً لادّعاءاتِ الحلفاءِ بالمطالبةِ بتعويضاتٍ عن خسائرِ الحربِ أو عن جزءٍ منها. وضّح لانسينچ أيضاً أنَّ الجنرالَ جان سموتس هو صاحب المفهومِ الأصليِّ للانتدابِ، [هامش 43] يقولُ أحدُ المختصيّنَ في القانون الدولي:[165]
تاريخ | مقارنة الدولة العثمانية قبلَ معاهدةُ سيفرَ عامَ 1920م، وبعدها، وحالياً ميلٌ مربعٌ (كم²) | |||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|---|
1914 | الدولة العثمانيةُ 613,720 ميل2 (1,589,540 كـم2) | |||||||
1920 بموجبِ معاهدة سيفر وحدودِ الاحتلال عقبَ الحرب العالمية الأولى | الدولة العثمانيةُ 175,000 ميل2 (453,000 كـم2) | أرمينيا 62,000 ميل2 (160,000 كـم2) | سوريا الطبيعيّةُ بما فيها لبنانُ وفلسطينُ وشرقُ الأردنِ والأقاليمِ السوريّةِ الشماليّةِ 140,000 ميل2 (350,000 كـم2) | العراق 140,000 ميل2 (370,000 كـم2) | مملكة الحجاز الهاشمية 100,000 ميل2 (260,000 كـم2) | عسير 35,000 ميل2 (91,000 كـم2) | اليمن 73,000 ميل2 (190,000 كـم2) | |
حالياً | تركيا 301,380 ميل2 (780,580 كـم2) (بعدما أضيفَ لها «الأقاليمُ السوريّةُ الشماليّةُ» | أرمينيا لمْ تُقرَّها معاهدةُ لوزان عامَ 1923م. | سوريا الحاليةُ (اقتطعَ منها "الأقاليمُ السوريّةُ الشماليّةُ"، وعامَ 1939م «لواءُ اسكندرونَ» 4800 كم²) 71,500 ميل2 (185,180 كـم2)؛ ولبنانُ 4,075 ميل2 (10,554 كـم2)؛ والأردنُ 34,000 ميل2 (89,000 كـم2)؛ وفلسطينُ 10,000 ميل2 (27,000 كـم2). | العراق 169,000 ميل2 (437,000 كـم2). | مملكة الحجاز الهاشمية ضمتْ (24-1925م) إلى «سلطنةِ نجدٍ» تحتَ اسمِ مملكةِ الحجازِ ونجدٍ وملحقاتِها (لاحقاً «المملكةُ العربيةُ السعوديةُ» منذ عام 1932م) | عسير (ضمّتْ إلى السعوديةِ عامَ 1932م). | الجمهورية اليمنية (سابقاً المملكة المتوكلية اليمنية واليمن الجنوبي) بما فيها اليمنُ الجنوبيُّ (337,000 كم²) بعدَ ضمهِ عامَ 1990م: 204,000 ميل2 (528,000 كـم2). |
وهكذا -وبالمحصّلةِ- اسْتُولِيَ على مستعمراتِ دولِ المركزِ الخاسرةِ من دونِ أن يقللَ ذلكَ من التعويضاتِ التي فُرضتْ عليها، ومعلومٌ أنَّ التعويضاتِ الجائرةَ التي فرضت على ألمانيا وتفاعلاتها كانت -نهايةَ المطافِ- أحدَ الأسبابِ المهمة لاندلاعِ الحرب العالمية الثانية. ووقعَ على شعوبِ المستعمراتِ «المحرَّرةِ» عبءُ إنقاذِ مستعمريهم من وطأةِ ديونِهم التي راكمتها أعباءُ الحربِ وإعادةِ بناءِ اقتصاداتِهم المدمرةِ بفعلِ تلكَ الحربِ، جنباً إلى جنب مع المستعمرات القائمة مسبقاً.[166][167] [هامش 44]
فسوريا ولبنان -على سبيلِ المثالِ- خضعتا لاحتلالٍ فرنسيٍّ مباشرٍ -شُرّعَ لاحقاً بموجبِ صكِّ انتدابٍ من عصبة الأمم-[هامش 45] بدعوى مساعدتِهما على الاستقلال بعد «تحريرهِما» خلال الحربِ، وسدّدت حكوماتُهُما -فضلاً عن ذلكَ- على مدى سنواتٍ أقساطاً مقررةً من الدينِ العثمانيِّ العام[168] الذي تعود أصولُه إلى القرن التاسع عشر. فمن جهةٍ عوملتا -بموجبِ المعاهدةِ ومن قبل العصبةِ- كمستعمرةٍ كانت محتلةً من قبل إحدى دول المركز وحُررت أثناء الحرب، وهو الأساس القانوني لوضعها تحت الانتداب، ومن جهةٍ أخرى أُلزمت بمطالباتٍ بتسديد حصةٍ من ديون الدولةِ العثمانيةِ بينما تحريرها يقتضي أن تتحرر كذلك من جميع التزاماتها اتجاه مستعمرها السابق.[هامش 46]
المشرق العربي
[عدل]أما في المشرق العربي أوِ الشرق الأدنى -بحسبِ التعبيرِ السائدِ وقتئذٍ استناداً لمصطلحاتِ الدوائر الاستعماريةِ البريطانيةِ-، فقد خُصَّتِ النقطة الثانية عشرة من مبادئ ويلسون بمصير الدولة العثمانية علماً أنَّ الولاياتِ المتحدة لم تدخلِ الحربَ ضدها، وكانت معاهدةُ سيڤر (10 أغسطس/آب 1920م) إحدى المعاهداتِ المهمةِ اللاحقةِ بمعاهدةِ ڤرسايَ،[هامش 47] وفيها أقرّتِ الدولة العثمانية بالاكتفاءِ بمدينةِ إسطنبولَ وقطعةٍ صغيرةٍ من تراقيا إلى الغرب منها، وبالجزءِ المركزيِّ من آسيا الصغرى أو هضبةِ الأناضولِ شمالاً حتى البحر الأسود، أمَّا بقيَّةُ أراضي الدولةِ فقد جُرّدت منها، وبذا تكونُ السلطنة العثمانية قد صُفّيَت نهائيّاً. وقّع السلطان العثماني على معاهدة سيڤر مُرغماً تحتَ ضغطِ الإنجليزِ الذينَ كانوا يحتلّونَ إسطنبولَ والمضائقَ، واعترَفَ بموجبِها بوضعِ مضيقيْ البوسفور والدردنيل تحت رقابةِ لجنةٍ دوليّةٍ، فلايجوزُ حصارُهما ولا إدخالُهما في حالةِ حربٍ إلا بقرارٍ منْ مجلسِ العصبةِ، وكذلكَ بالحكمِ الذاتيِّ لإقليمِ كردي في الجنوبِ الشرقيِّ من الأناضولِ، وأقرَّ بإنشاءِ دولةٍ جديدةٍ مستقلةٍ شرقَ الأناضولِ هيَ أرمينيا وتضمُّ مناطقَ وان في الجنوبِ، وقارصَ وأرضرومَ في الوسطِ، وطرابزونَ شمالاً على ساحلِ البحر الأسود، ووُضعت إزميرُ والأراضي المجاورةُ لها -حيثُ تستوطنُ جاليةٌ يونانيّةٌ كبيرةٌ- بصورةٍ مؤقتةٍ تحتَ إدارةٍ عسكريةٍ يونانيّةٍ معَ بقائِها اسمياً تحتَ السيادةِ التركيةِ (كانت احتلت أواخرَ الحرب من قبلِ اليونانيين)، وأقرّتِ المعاهدةُ منحَ فرنسا منطقةَ نفوذٍ وسطَ الأناضول تمتدُ إلى ما بعدَ مدينةِ سيواسَ شمالاً وتشملُ أضنةَ ومرسينَ وطرسوسَ في الغربِ وحتى نهر الفرات شرقاً، وعلى منحِ إيطاليا منطقةَ نفوذٍ جنوبَ الأناضول، وتشملُ مدنَ أنطاليا على ساحل المتوسطِ وقونية وأفيون قره حصار، وتمتدُ نحوَ الشمالِ الغربيِّ قريباً من بحر مرمرة.[169]
أعلن الشريفُ الحسينُ بن علي الاستقلالَ عامَ 1916 إثرَ إعلانهِ الثورةَ العربيةَ الكبرى، وسرعانَ ما أعلنت بريطانيا وفرنسا اعترافهما بمملكة الحجاز لحاجتهما الماسّةِ لحليفٍ ضد الدولة العثمانية، وعليه حضرَ الأميرُ فيصلُ (1883-1933) مؤتمرَ السلامِ بدعوةٍ بريطانيّةٍ لكنَّ فرنسا لم تعترفْ باشتراكهِ -بعد لأيٍ ومماطلةٍ- إلا كحليفٍ عسكريٍّ فقط. قدَّمَ فيصل مذكرةً يطلبُ فيها الاعترافَ بدولةٍ عربيةٍ مستقلّةٍ جنوبَ خطِّ «اسكندرون-دياربكر» بضمانةِ عصبة الأمم، وفي كلمتِهِ أمامَ المؤتمر [مجلس العشرِة] «أسهبَ في شرحِ مطالبِهِ بحقِّ العربِ في تقريرِ مصيرهِم بأنفسهِم، وبالالتزامِ بالاتفاقِ الذي تمَّ في مراسلات الحسين – مكماهون، وبتنفيذِ الإعلانِ الأنجلو-فرنسي الصريحِ والقاطعِ...، وأقرَّ كذلكَ بأنَّ فلسطين قد تتطلبُ نظاماً خاصاً، وأنَّ العراق سوفَ "يقبلُ مساعدةَ" بريطانيا العظمى، وأنَّ جبلَ لبنانَ سوفَ يقبلُ مساعدةً مماثلةً من فرنسا، أما بالنسبةِ للأجزاءِ الباقيةِ فإنَّ مطلبَ الأميرِ كانَ الاستقلالَ».[170][171]
لكنَّ ذلكَ كلَّه لقيَ آذاناً صمّاءَ، فعلى الرّغمِ منِ اتفاقِ الشريفِ الحسينِ معَ ماكماهونَ المندوبِ السامي في مصر ممثلاً عن بريطانيا، وبالرغم منِ اعترافِ الحلفاءِ بالشريفِ كملكٍ للحجازِ وحليفٍ ساهمَ في الحربِ، وقدومِ فيصل الأول إلى المؤتمر على هذا الأساسِ، وبالرغمِ من إعلانِ «المؤتمر السوري العام» بدمشق (17 جمادى الآخرة 1338هـ - 8 مارس/آذار 1920) سوريا الكبرى بحدودِها الطبيعيّةِ (أي بلاد الشام) دولةً مستقلةً استناداً إلى حق تقرير المصير إلا أنَّ معاهدتَيْ ڤرسايَ وسيڤرَ جاءتا خلواً من أيِّ ذكرٍ لدولةٍ في آسيا العربية عدا مملكة الحجاز، وقررت فرنسا وبريطانيا تقاسُمَ «بلادِ الشام» (سوريا الطبيعية)، و«العراقِ» تحت مسمّى الانتدابِ بناءً على اتفاقية سايكس بيكو للعامِ 1916م بينهما، ومقرراتِ مؤتمر سان ريمو (1-6 شعبان 1338هـ - 19-26 أبريلَ/نيسانَ 1920م) المعدِّلةِ لها، والتي لم يكنِ الاتفاق على الانتداب على الهلال الخصيب وتقسيم مناطقه أهم ما فيها، ولكن أيضاً الموافقة على «تصريح بلفور»[120] ما مهّد الطريق لموافقة «عصبة الأمم» على تلبية إصرار بريطانيا بإدراجه في صك انتدابها على فلسطين، وبذا صار شرعياً من قبل المجتمع الدولي.[هامش 48]
وفي معاهدةِ سيڤر (10 أغسطس/آب من العام 1920) مع الحلفاءِ -التي لم يعترف بها الملك الحسين ورفض التوقيع عليها- اعترفتِ الدولة العثمانية بالحالةِ السياسيّةِ الراهنةِ القائمةِ في مصر (كانت بريطانيا أعلنت عليها «الحمايةَ» بُعيْدَ إعلانِ الحرب العالمية الأولى، وقد اعترفت بها ألمانيا في معاهدة فرساي)، والسودان (بصفتهِ تحتَ الحكمِ الإنجليزي-المصري المشتركِ منذ العام 1899م)، وقبرصَ (كانت تحتَ الإدارةِ البريطانيةِ الفعليةِ والسيادة الاسميّةِ العثمانيّةِ منذُ العامِ 1878م)، والتخلي عما تبقّى منْ جزرِ بحر إيجه مما احتله الطليانُ خلالَ الحربِ، وبالحمايةِ الفرنسيّةِ على المغربِ (كانت أعلنت في العام 1911م)، وتونسَ (أعلنت في العام 1882م)، وتنازلت عن كل ما لها من حقوقٍ في البلادِ العربيةِ الأسيويةِ؛ سوريا، ومتصرفيةِ جبلِ لبنانِ، وفلسطين (مع الاعتراف بوطن قومي لليهود فيها)، والعراقِ، والحجاز، ونجدٍ، والإحساء، وعسير، واليمن.[169]
في النهايةِ وُضِعتْ كلٌّ من سوريا ومتصرفية جبل لبنان تحتَ الانتداب الفرنسيِّ عامَ 1922م الذي لمْ يكُ أكثرَ منْ غطاءٍ دوليٍّ تحتَ مظلةِ عصبة الأمم لأمرٍ واقعٍ (كانَ الجيشُ الفرنسيُّ أتمَّ احتلالَهما عامَ 1920م)، وكلٌّ من فلسطينَ والعراقِ تحتَ الانتدابِ البريطانيِّ عامَ 1922م (وقد احتُلّتا خلالَ الحربِ)، وأسِّستْ دولةٌ بإشرافٍ بريطانيٍّ هيَ إمارةُ شرقِ الأردن في 30 مارس/آذار عام 1921.
ردود الفعل
[عدل]أدتِ الحرب إلى فقدان أباطرة المركز الثلاثة فضلاً عن ملك بلغاريا لعروشهم فيما بدا انهياراً ولّد فراغاَ سياسياً واسعَ النطاقِ في الفضاء الجيوسياسي للحلفِ المهزوم.
ألمانيا
[عدل]نتيجةُ أهدافِ المنتصرينَ المتنافسةِ -والمتعارضةِ أحياناً- جاءتِ المعاهدةُ حلاً وسطاً لمْ يُرضِ أحداً. لمْ تغدُ ألمانيا مُسالمةً ولا مُتصالحةً، ولم تضعفْ بشكلٍ دائمٍ كما أرادت لها فرنسا، ولسوف تُوَلّد تداعيات المعاهدة عدم استقرارٍ كبيرٍ في السنوات الأولى لجمهورية فايمار (على سبيل المثال: انقلاب 13 مارس/آذار 1920 الذي استولى على برلين دونما طلقةٍ واحدةٍ، وردُّ الفعل عليه إضرابُ 15 مارس/آذار 1920 الأكبرُ في تاريخ ألمانيا إذ شارك فيه 12 مليونَ عاملٍ، وانضم له العديد من أفراد الشعب رفضاً لقيام حكومةٍ عسكريةٍ، وقد شلَّ ألمانيا تقريباً)،[هامش 49] وستقودُ المشاكلُ التي نجمت عن معاهدةِ فرسايَ إلى اتفاقيّاتِ لوكارنو التي حسّنتِ العلاقاتِ بينَ ألمانيا والقوى الأوروپيّةِ الكبرى الأخر. وستؤدي إعادةُ التفاوضِ على نظامِ التعويضاتِ إلى خطةِ دوز (1924م)، ثم خطة يونغ لجدولة الدبونِ (1928م)، ثم تأجيلِ دفعِ التعويضاتِ إلى أجلٍ غيرِ مسمىً في مؤتمرِ لوزانَ (1932م). جرى الاستشهادُ بالمعاهدةِ -في بعضِ الأحيانِ- كأحدِ أسبابِ اندلاعِ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ مع أنَّ تأثيرَها الفعليَِّ -كما يُعتقدُ- لمْ يكُ بالحدّةِ التي كانَ يُخشى منها، إلا أنَّ شروطَها [وربما كانَ هذا التأثيرَ الأهمَّ] أفضتْ إلى استياءٍ كبيرٍ في ألمانيا، وتضافرَ ذلكَ مع الحصارِ البحريِّ للحلفاءِ الذي استمر حتى توقيع المعاهدة، والدمارِ، والاقتصادِ الهشِّ صنيعةِ الحربِ وما آلَ إليهِ من التضخمِ الفاحشِ في الفترة (18-1923م)، حفز كل ذلكَ انتشارَ التيّاراتِ المتطرفةِ كالشيوعيّةِ والنازيّةِ، وآلَ في نهايةِ المطافِ إلى بزوغِ نجمِ أدولف هتلر.[هامش 50]
قيلَ الكثيرُ عن (المادةِ 231) الشهيرةِ بـ«عبارةِ ذنبِ الحربِ» (بالإنجليزية: "War Guilt Clause")، وأولِ مادةٍ في القسمِ المخصّصِ للتعويضاتِ في المعاهدةِ. قيلَ بأنها لم تترجمْ بشكلٍ صحيحٍ للجانبِ الألمانيّ، وأنَّ صيغتها التاليةَ كما وردتْ في النسخةِ التي سُلّمتْ للحكومةِ الألمانيّةِ: «تُقرُّ ألمانيا، بأنَّ ألمانيا وحلفاءَها -بصفتهم بادئي الحربِ- مسؤولونَ عنْ جميعِ الخسائرِ والأضرارِ...» كانتْ نتيجةَ ترجمةٍ غيرِ دقيقةٍ للنصِّ الأصليِّ -المحرَّرِ بكلتا اللغتينِ الفرنسيةِ والإنجليزيةِ-[هامش 51] وهيَ صيغةٌ اعتبرَتْ مُهينةً، وأدّتْ إلى شعورٍ بالإذلالِ في أوساطِ الشعبِ الألمانيِ. وجدَ الرأيُ العامُّ هذهِ المادةَ بأنها ظالمةٌ، فإذا كانَ لألمانيا (وحلفائها) نصيبُها -بالطبعِ- من المسؤوليّةِ إلآ أنْه ليستِِ المسؤوليّةَ كاملةً، كانَ ثمّة رأيٌ مفادُهُ أنّ ألمانيا قدْ «تخلتْ عن كرامتِها»[172][173] أدركَ المسؤولونَ «أنَّ موقفَ ألمانيا حيالَ هذا الموضوعِ لمْ يكُ حسناً، لأنَّ الحكومةَ الإمبرياليّةَ دفعتِ الشعبَ الألمانيَّ إلى الإيمانِ بها خلالَ الحربِ».[174] كانتِ الحكومةُ واقعةً بينَ مطرقةٍ وسندانٍ، فمنْ جهةٍ كانَ ثمة الغضبُ الشعبيُّ، ومنْ جهةٍ أخرى كانَ ضغطُ الحلفاءِ. كتب الكاتب الألماني النازي ڤيليبالاد شولز: «إن المعاهدة وضعت ألمانيا في ظل العقوبات القانونية محرومةً من القوة العسكرية، وقد دُمِّرت اقتصادياً، وأُذلَّت سياسياً».[175] فيما بعدُ سيسعى السياسيّونَ والمؤرّخونَ كلٌّ منَ جهتهِ إلى إثباتِ أنَّ ألمانيا لم تكُ وحدَها المذنبةَ في التسبّبِ بالحربِ؛ فإذا أمكنَ دحضُ هذهِ الحجةِ فإنَّ الادّعاءَ القانونيَّ الذي يدعمُ فرضَ التعويضاتِ سينهار.[176]
بريطانيا والدومنيون
[عدل]رأى بعض الساسةِ من الإنجليزِ والدومنيون أنَّ السياسةَ الفرنسيةَ كانتْ جشعةً وانتقاميّة،[177][178] آمن ديڤيد لويد جورج وسكرتيره الخاص فيليب كير بالمعاهدة على الرغم من شعورهما بأنَّ الفرنسيينَ سيُبْقونَ أوروپا في حالةِ اضطرابٍ مستمرٍ بفعلِ حرصهمْ على صونِها.[177] أصدر الجنرالُ سموتز (صاحبُ فكرتي الانتدابِ وعصبة الأمم) بياناً يُدينُ المعاهدةَ، ويأسفُ لعدمِ كتابةِ الوعودِ «بنظامٍ دوليٍّ جديدٍ وعالمٍ أكثرَ عدلاً وأفضلَ في هذهِ المعاهدة»!!، وكتب رئيسُ الوزراءِ الأسترالي بيلي هيوز إلى لويد جورج في خيبة أملٍ: «لقد أكدّتَ لنا أنك لاتستطيعُ الحصولَ على شروطٍ أفضل، وأنا آسف لذلك كثيراً وآمل أن تكون هناك طريقة أخرى حتى نتفق بشأن مطالب التعويض المتناسبةِ مع التضحيات الهائلةِ التي قُدمتْ من قبل الإمبراطورية البريطانية وحلفائها».[179] [هامش 52]
لقيتِ المعاهدةُ قَبولاً واسعاً لدى رجلِ الشارعِ الإنجليزيِّ،[180] لكنَّ الرأيَ العامَّ تغيرَ مع تصاعدِ الشكوى الألمانيّةِ[181] حتى أعربَ رمزي ماكدونالد (1866-1937) رئيسُ الوزارةِ البريطانيةِ (عدة مراتٍ بين 24-1935) -بعدَ الإعلانِ رسمياً عن إعادةِ نشر الجيش الألماني في منطقةِ الراينلاند في 7 مارس/آذار 1936- عن سرورهِ لأن المعاهدةَ تتلاشى، وأمله بأنَّ الفرنسيينَ قد تلقَّوا درساً قاسياً.[178]
بذلتْ كندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوبُ إفريقيا مساهماتٍ كبيرةً في المجهودِ الحربي البريطاني، ولكن كدولٍ مستقلةٍ لا كمستعمراتٍ بريطانية، وجاء توقيعُها على المعاهدةِ بمنزلة اعترافٍ دولي باستقلالها، في حينِ لم يجرِ التعاملُ مع الهندِ بالسويّةِ ذاتِها وهي التي قدمتْ أكبر مساهمةٍ عسكريةٍ من بين المستعمرات البريطانيّةِ السابقةِ (الدومنيون) والقائمةِ (وقعتْ حكومة الهند البريطانية المعاهدةَ ممثلةً عن الهند). لقد كانت الحرب -وخلافاً للمخاوف البريطانية- مثالاً غير مسبوقٍ عن حسن النيةِ إزاء بريطانيا من قبل الهنود والنخبةِ السياسيّةِ الهنديّةِ اعتقاداً بأن هذا الموقف سيفيدُ الهندَ في تقرير مصيرها بعد الحرب،[182][183] [لكنّ الهندَ بقيتْ خاضعةً للسيطرةِ الاستعماريّةِ البريطانيّةِ المباشرة. كان ذلك مثالاً صارخاً عن الازدواجيةِ في التعامل مع الشعوبِ ذواتِ الأصلِ الأوروپي وسواها].
فرنسا وإيطاليا والبرتغال
[عدل]قوبل توقيع المعاهدة بصخب الغناء والرقص في پاريس. ابتهج الناس بالنهاية الرسمية للحرب،[184] وعودة الألزاس واللورين إلى فرنسا، وموافقة ألمانيا على دفع تعويضات.[185]
وفيما صادقت فرنسا على المعاهدة فإن المزاج المبتهج سرعان ما أفسح الطريقَ لرد فعلٍ سياسيٍّ عنيفٍ على كلمنصو. رأى اليمينُ الفرنسيُّ أنَّ المعاهدةََ كانتْ جدُّ متساهلةٍ، وأنها فشلت في تحقيقِ جميعِ مطالبِ فرنسا. صرح مارشال فرنسا فرديناند فوش: «لقد خسر الإمبراطور فلهلم الحرب لكن كلمنصو خسر السلام. هذه المعاهدة ليست سلاماً. إنها هدنة لمدة عشرين عاماً»، وهو ما اعتبر نبوءةً من بعدُ. هاجم اليسارالفرنسي كذلك المعاهدةَ وكلمنصو بوضفها قاسيةٌ للغاية (تحول كلمنصو إلى إدانةٍ طقسيةٍ للمعاهدة من الطرفين)، انتقاد للفشل في ضم الراين، وللمساومة على الأمن الفرنسي لصالح الولايات المتحدة وبريطانيا.[186][180][181][187] فيما بعد عندما ترشح كلمنصو لرئاسةِ الجمهوريةِ في ينايرَ/كانونَ الأولَ من العام 1920 خسر الانتخاباتِ.[188]
كان رد الفعل في إيطاليا على المعاهدة سلبيّاً للغاية. عانتِ البلادُ من خسائرَ بشريةٍ كبيرةٍ،[هامش 53] لكنها فشلت في تحقيق معظم أهدافها الحريية الرئيسة، ولا سيّما السيطرة على الساحل الدلماسي وميناء افيومي. أدى عدم الدعم من قبل الأطراف الثلاثة الرئيسة الكبرى مع التبايناتِ في استراتيجية التفاوض بين رئيس الوزراء ڤيتوريو أورلاندو ووزير خارجيته سيدني سونينو إلى تقويض موقف إيطاليا في المؤتمر. عانى أورلاندو الغاضب من انهيارٍ عصبيٍّ وخرج في مرحلةٍ ما من المؤتمر، ومع أنه عاد لاحقاً إلا أنه فقد منصبه كرئيس وزارةٍ قبل أسبوعٍ واحدٍ فقط من موعد التوقيع، فأنهى فعلياً حياته السياسية النشطة. ساعد الغضب والاستياء من المعاهدة بتمهيد الطريق لتأسيس استبدادية (دكتاتورية) بينيتو موسوليني بعد ثلاث سنواتٍ.[189]
دخلتِ البرتغال الحربَ إلى جانب الحلفاء في العام 1916 لضمان الحفاظ على مستعمراتها الإفريقية في المقام الأول، والتي كانت مهددةً بفقدانها من قبَل كلٍّ من بريطانيا وألمانيا. اعترفتِ المعاهدة بالسيادةِ البرتغاليةِ على هذهِ المستعمراتِ ومنحتها أجزاءً صغيرةً من المستعمراتِ الألمانيةِ الإفريقيةِ المتاخمةِ لمستعمراتها. وبخلاف ذلك كسبتِ البرتغال نزراً يسيراً من مؤتمر السلام. لم تُحرزِ البتّةَ نصيبَها الموعودَ من التعويضاتِ الألمانيةِ، وذهب المقعد الذي كانت تطمح إليه في المجلس التنفيذي لعصبة الأمم الجديدة -بدلاً من ذلك- إلى إسبانيا المحايدة التي لم تشارك في الحرب. بالمجمل صادقتِ البرتغال على المعاهدة، لكنها لم تجْنِ الكثير من حربٍ كلفتها أكثر من ثمانيةِ آلافِ جنديٍّ، وما يصل إلى مئةِ ألفٍ من رعاياها الأفارقة أبناءِ المستعمَرات.[190]
الشرق الأقصى: الصين واليابان
[عدل]شعر الكثيرون في الصين بالخيانة عندما جرى تسليم الأراضي الألمانية في الصين (تسينغتاو) لليابان. أدى هذا الشعور بالخيانة إلى مظاهراتٍ واحتجاجاتٍ كبيرةٍ في الصين مثل «حركةِ 4 مايو». كان ثمة استياءٌ كبيرٌ من حكومةِ دوان كيروي التي فاوضت اليابانيين سرّاً بغية الاقتراضِ لتمويل حملاتها العسكرية ضد الجنوب. في 12 يونيو/حزيران من العام 1919 أُجبرتِ الحكومة على الاستقالة، وأمرتِ الحكومة الجديدة وفدها في ڤرساي بعدم التوقيع، رفض ولنچتون كو (بالإنجليزية: Koo) رئيس الوفد الصيني التوقيع على المعاهدةِ وكان الطرفَ الوحيدَ في مؤتمر پاريس الذي لم يُمضِها في حفل التوقيع.[191][192] مما أدى -نتيجةً لذلك- إلى تدهور علاقات الصين مع الغرب.[193]
كان لعالمِ «غير البيض» المحرومين، والمستعمَر غالباً آمالٌ كبيرة بأن النظام الجديد سيَمنح فرصةً غير مسبوقةٍ لإقرار مبدأ المساواة العرقية الذي تعترف به القوى العالمية الرائدة.[194