محمد - ويكيبيديا
أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ الْقُرَشِيُّ (ربيع الأول 53ق.هـ - ربيع الأول 11هـ) (أبريل 571م - يونيو 632م)؛ هو رسول الله إلى الإنس والجن في الإسلام؛[1] أُرسِل ليُعيد العالمين إلى توحيد الله وعبادته شأنه شأن كل الأنبياء والمرسلين، وهو خاتمهم، وأُرسِل للناس كافة،[2] ويُؤمن المسلمون بأنه أشرف المخلوقات وسيد البشر،[3] ويعتقدون فيه العصمة.[4] عند ذكر اسمه، يُلحِق المسلمون عبارة «صلى الله عليه وسلم» مع إضافة «وآله» و«وصحبه» في بعض الأحيان، لِمَا جاء في القرآن والسنة النبوية مما يحثهم على الصلاة عليه.[5] ترك النبي محمد أثرًا كبيرًا في نفوس المسلمين، وكثرت مظاهر محبّتهم وتعظيمهم له باتباعهم لأمره وأسلوب حياته وتعبده لله، وقيامهم بحفظ أقواله وأفعاله وصفاته وجمع ذلك في كتب عُرفت بكتب السيرة والحديث النبوي، واحتفالهم بمولده في شهر ربيعٍ الأولِ في كل عام. وحَّد محمد الجزيرة العربية في نظام إسلامي واحد، حيث شكّل القرآن وتعاليمه وممارساته أساس نظامها.
وُلد في مكة في شهر ربيع الأول من عام الفيل، قبل ثلاث وخمسين سنة من الهجرة، ما يوافق سنة 570 أو 571 ميلادياً و53ق.هـ.[6] وُلِد يتيم الأب، وفقد أمه في سن مبكرة فتربى في كنف جدّه عبد المطلب، ثم من بعده عمه أبي طالب إذ ترعرع، وكان في تلك الفترة يعمل بالرعي ثم بالتجارة. تزوج في سن الخامسة والعشرين من خديجة بنت خويلد وأنجب منها كل أولاده باستثناء إبراهيم. كان قبل الإسلام يرفض عبادة الأوثان والممارسات الوثنية التي كانت منتشرة في مكة، وكان ينعزل ويتعبد في غار حراء عدة ليالٍ.[7] وعندما كان محمد في الأربعين من عمره، قرابة 610م، ذكر أنّ جبريل زاره في الغار، وتلقى أول وحي من الله. وفي عام 613م، نزل عليه جبريل وكُلّف بالرسالة وهو ابن أربعين سنة، أمر بالدعوة سرًّا لثلاث سنوات، قضى بعدهن عشر سنوات أُخَر في مكّة مجاهرًا بدعوة أهلها، وكلِّ من يرد إليها من التّجار والحجيج وغيرهم، مُعلنًا أن «الله واحد»، وأن «الخضوع» الكامل (الإسلام) لله هو الطريق الصحيح، وأنه نبي مرسل من الله على غرار الأنبياء الآخرين في الإسلام. هاجر إلى المدينة المنورة والمسماة يثرب آنذاك عام 622م وهو في الثالثة والخمسين من عمره بعد أن تآمر عليه سادات قريش ممن عارضوا دعوته وسعوا إلى قتله، فعاش فيها عشر سنين أُخر داعيًا إلى الإسلام، وأسس بها نواة الحضارة الإسلامية، التي توسعت لاحقًا وشملت مكة وكل المدن والقبائل العربية، إذ وحَّد العرب لأول مرة على ديانة توحيدية ودولة موحدة، ودعا لنبذ العنصرية والعصبية القبلية.
مصادر سيرته
كان لشخصية النبي محمد تأثير كبير في التاريخ، ولذلك فإن حياته وأعماله وأفكاره قد نُوقشت على نطاق واسع من جانب أنصاره وخصومه على مر القرون. كما اهتم المسلمون قديمًا وحديثًا بسيرته باعتبارها المنهج العملي للإسلام، فألف علماء الإسلام مؤلفات عديدة وجامعة في سيرته، ودونوا كل ما يتعلق بذلك.[8]
القرآن
يُعد القرآن مصدرًا أساسيًا لمعرفة سيرة النبي محمد،[9] كونه أقدم وأوثق مصادر السيرة النبوية، لأنه يرجع إلى عصر النبي محمد نفسه. كما يتفق المسلمون كافة على مدى العصور على نسخة واحدة منه رغم اختلاف الفرق الإسلامية.[10] وإن كان القرآن لم يتناول كل سيرة النبي محمد باستفاضة، إلا أنّه ذكر فيه إشارات كثيرة إلى سيرته إما بصريح العبارة أو بالإشارة أو بالتضمين،[11] فذُكر فيه بعض شمائله ودلائل نبوته وأخلاقه وخصائصه وحالته النّفسية وذُكر فيه أيضًا شيء عن غزواته، فقد ورد في القرآن قرابة 280 آية في الغزوات (وهي تساوي نسبة 4,65% من القرآن)[11] جاء بعضها بالإشارة، وبعضها تصريحًا، كغزوات بدر وأُحُد والخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة.[12] فمثلاً اشتملت سورة الأحزاب على تفاصيل من سيرة محمد مع أزواجه وأصحابه كما تضمنت تفاصيل كثيرة عن غزوة الأحزاب.[13]
كتب الحديث
شغلت السيرة النبوية حيزًا كبيرًا من كتب الحديث، وكلّ من ألّف في الحديث كان يُخصص أقسامًا وأبوابًا وكتبًا خاصة بما يتعلق بحياة النبي محمد ودعوته ومغازيه وصحابته،[14] غير أن تلك الأقسام لم تكن مرتبة ترتيبًا زمنيًا.[15] ثم إن مقصد مؤلفي هذه الكتب كان منصَبًّا على جمع أقوال النبي محمد وأفعاله وتقريراته وأحكامه،[15] وكانت مشاهد السيرة تأتي في ثناياها ليستدلوا بها على الحكم الشرعي،[16] لذا جاءت بغير تفصيل بل كانت تقتصر على بعض تلك الأخبار وفق منهج أهل الحديث في الرواية.[11]
اتفق علماء المسلمين على أن أشهر وأقدم كتب الحديث التي زخرت بأخبار السيرة النبوية هو موطأ مالك، إذ أورد جملة من الأحاديث تتعلق بسيرة النبي محمد وأوصافه وذكر ما يتعلق بالجهاد.[14] وكذلك فعل البخاري في صحيحه، إذ ذكر جوانب من حياة النبي محمد قبل البعثة وبعدها، وخصص كتابًا في المغازي وآخر في الجهاد،[17] كما ذكر كثيرًا من خصائصه ودلائل معجزاته بما يوازي عُشْر صحيحه.[14] وهكذا فعل مسلم بن الحجاج في صحيحه، إذ اشتمل على جزء كبير من سيرته وفضائله وجهاده.[14] وكان كلّ من جاء بعدهم اتبع النهج نفسه مع اختلاف في التبويب والترتيب، كأصحاب السنن أبي داود والترمذي ومحمد بن ماجه والدارمي وأحمد بن حنبل.[15]
كتب السيرة
بدأت كتابة السيرة النبوية والمغازي في مرحلة متأخرة عن كتابة الأحاديث النبوية، وإن كان الصحابة يهتمون بنقل سيرته شفاهًا،[18] فكان أول من اهتم بكتابة السيرة عمومًا هو عروة بن الزبير (ت. 92 هـ) ثم أبان بن عثمان (ت. 105 هـ) ثم وهب بن منبه (ت. 110 هـ) ثم شرحبيل بن سعد (ت. 123 هـ) ثم ابن شهاب الزهري (ت. 124 هـ)، غير أن جميع ما كتبه هؤلاء قد باد وتلف، فلم يصل إلينا منه شيء، إلا بقايا متناثرة روى بعضها الطبري.[18] وفي الطبقة التي تلي هؤلاء، يأتي محمد بن إسحاق (ت. 152 هـ) والذي اتفق الباحثون على أنّ ما كتبه يُعد أوثق ما كُتب في السيرة النبوية في ذلك العهد،[15] ولكن كتابه لم يصل إلينا كاملًا، لكن نقل ابن هشام (ت. 218 هـ) كتاب ابن إسحاق مهذبًا ملخصًا وهو المعروف بكتاب «سيرة ابن هشام».[19] كما اعتمد الطبري (ت.310 هـ) اعتمادًا كبيرًا على أخبار رُويت عن ابن إسحاق في الجزء الخاص بالسيرة النبوية من كتابه تاريخ الطبري.[إنج 1]
مصدر آخر ظهر في وقت مبكر هو «المغازي» للواقدي (ت. 207 هـ)، الذي استفاد منه تلميذه ابن سعد البغدادي (ت. 230 هـ) في كتابه المسمى بـ «الطبقات الكبرى». تعامل الكثير من الباحثين مع هذه المصادر كمصدر صحيح، مع أن دقتها غير مؤكدة.[إنج 1] عمل الباحثون لاحقًا على التمييز بين الأساطير والروايات الدسيسة والمكذوبة من جهة والروايات التاريخية البحتة من جهة أخرى.[إنج 2]
كتب الشمائل والدلائل
تعدّ كتب الشمائل من المصادر الأساسية لمعرفة سيرة النبي محمد،[20] وهي الكتب التي قصد أصحابها العناية بذكر أخلاق محمد وعاداته وفضائله وسلوكه في الليل والنهار،[16] كما تناولت آدابه وصفاته الخَلْقية والخُلُقية.[21] اهتم علماء المسلمين بالشمائل المحمدية منذ القدم، وكان أحد أغراض كتب الحديث، ثم أفرده المحدّثون في كتب مستقلة، كان في مقدمتهم أبو البختري وهب بن وهب الأسدي (ت. 200 هـ) في مؤلفه "صفة النبي ﷺ" ثم أبو الحسن علي بن محمد المدائني (ت. 224 هـ) في كتابه «صفة النبي»، ثم كتاب «الشمائل المحمدية» للترمذي (ت. 279 هـ)، ثم داود بن علي الأصبهاني (ت. 270 هـ) في كتابه «الشمائل المحمدية»،[21] ثم إسماعيل القاضي المالكي (ت. 282 هـ) في كتابه «الأخلاق النبوية»، كذلك أبو الحسن أحمد بن فارس اللغوي (ت. 295 هـ) في كتابه «أخلاق النبي».[16] ثم جاء بعدهم في القرون التالية خلق كثيرٌ، منهم القاضي عياض (ت. 544 هـ) في كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى».
أما كتب الدلائل فهي الكتب التي حوت بحسب ما يراه المسلمون الحجج والبراهين الدّالّة على صدق وصحّة نبوة محمد، وعلى شمول وعموم رسالته، بدلالات واضحة لا جدل فيها، وفيها الأدلة على معجزاته وظهور آياته، والردّ على من أنكرها.[22] وفي كتب السنة النبوية أبواب خُصصت لعلامات النبوة، كما فعل البخاري ومسلم وغيرهما. أما الكتب المخصصة لهذا الشأن فهي كثيرة جدًا أشهرها «دلائل النبوة» للبيهقي.[23]
مصادر أخرى
للسيرة مصادر أخرى مثل كتب تفسير القرآن وأسباب النزول، ذلك أن علماء المسلمين يعتمدون في شرح القرآن بشكل أساسي على تفسيرات القرون الإسلامية الأولى، بما في ذلك الآيات التي تتناول حياة محمد. ومن أمثلتها تفسير ابن كثير وتفسير الطبري وتفسير القرطبي.[وب 1] إضافة إلى كتب التاريخ التي تتناول التاريخ عمومًا وتتطرق إلى السيرة النبوية كتاريخ الطبري وتاريخ ابن خلدون وغيرها.[وب 1] كذلك هناك مصادر غير عربية، منها اليونانية، ومن أقدمهم الكاتب ثيوفانس في القرن التاسع الميلادي. وهناك السريانية ومن أقدمهم كاتب القرن السابع جون بار بينكاي[إنج 3] مع وجود خمسة كتبة آخرين لا تزيد فترة ذكرهم للنبي عن ثلاثين عامًا من وفاته.
خلفية تاريخية
جزء من سلسلة مقالات حول |
الرسول محمد |
---|
بوابة محمد |
كانت شبه الجزيرة العربية مفككة، لا توحدها دولة ولا تديرها حكومة،[24] وكانت الدول القديمة التي قامت في اليمن ونجد وأطراف العراق والشام قد اندثرت، وطغت البداوة على المدن في تهامة والحجاز،[وب 2] فكانت القبيلة هي الوحدة السياسية والاجتماعية. فكانت مكة تُدار من قبل الملأ في دار الندوة.[25] والمدينة المنورة في حالة نزاع دائم بين الأوس والخزرج. أما دولة المناذرة في الحيرة ودولة الغساسنة في الشام فقد سمح الفرس والروم للدولتين بالنشوء لتكونا حاجزتين تصدان عنهما غزو القبائل العربية، وتتوليان حماية القوافل التجارية. وقد أسقط الفرس دولة المناذرة سنة 602م قبل البعثة المحمدية بثمان سنوات.[وب 2]
وكان بدو العرب يعتمدون على الرعي والتنقل لأماكن الماء، مما يجعلها في حروب مع بعضها للحصول على الموارد.[وب 2] أما في المدن، فكان فيها نشاط تجاري وزراعي وصناعي، فمكة كان يغلب عليها النشاط التجاري، وتتحكم بطرق التجارة بين اليمن والشام، وقد استفادت مكة من مكانة الكعبة الدينية عند العرب في حماية قوافلها التجارية.[25] أما المدينة فكان يغلب عليها الزراعة حيث بساتين النخيل والأعناب والفواكه. واستعمل العرب الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي في التبادل التجاري.[وب 2] أما الصناعة فقد عُرفت المدينة بصياغة الحلي الذهبية والفضية، وصناعة السيوف والرماح والنبال والدروع، كما قامت في المدن العربية حرف الحدادة والصياغة والدباغة، والغزل والنسيج. وكان العرب يعرفون أنواعًا من المعاملات المالية كالقراض والمضاربة والرهن.[وب 2]
سادت الوثنية في جزيرة العرب،[26] إذ كانوا يعبدون آلهة يمثلونها في أصنام مصنوعة من الحجر والخشب بلغ عددها 360 صنمًا حول الكعبة تعبدها القبائل التي تؤم البيت للحج وتقدم لها القرابين والنذر.[وب 3] كان من أقدمها وأكبرها «هُبَل» (لكنانة وقريش)، و«مَناة» (لهُذَيل وخزاعة)، و«الّلات» (لثقيف)، و«العُزَّى» (لقريش وكنانة).[27] ومع ذلك بقي لديهم شعائر من بقايا دين إبراهيم مثل تعظيم الكعبة، والطواف بها، والحج، والعمرة.[26] وكان هناك أفراد من الموحدين على ملة إبراهيم وإسماعيل كانوا موجودين في مكة عرفوا بالأحناف.[وب 3] وجدت أيضًا ديانات بشكل محدود مثل اليهودية في اليمن والمدينة، والنصرانية في نجران والحيرة ودومة الجندل وأطراف الشام. كذلك وُجد انتشار محدود للمجوسية قادمًا من بلاد الفرس.[وب 3]
نسبه
هو «أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (واسمه شيبة) بن هاشم (واسمه عمرو) بن عبد مناف (واسمه المغيرة) بن قصي (واسمه زيد) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (واسمه قيس) وهو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة (واسمه عامر) بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان». هذا هو المتفق عليه من نسبه، أما ما فوقه ففيه اختلاف كثير، غير أنه ثبت أن نسب عدنان ينتهي إلى إسماعيل بن إبراهيم.[28]
ولم يكن فرع من قريش إلا كان لمحمد فيهم قرابة.[29] ويعتقد المسلمون أن الله قد اصطفى نبيَّهم محمدًا واختاره من أزكى القبائل وأفضل البطون وأطهر الأصلاب،[30] حيث قال: «خرجتُ من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمّي»،[31] وقال أيضًا: «إنَّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»،[32] وقال أيضًا: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا»،[33] وقال: «إنَّ الله تعالى خلق الخلق، فجعلني في خير فِرَقِهم، وخير الفرقتين، ثم تخيَّر القبائل فجعلني في خير قبيلة، ثم تخيَّر البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرُهم نفسًا، وخيرُهم بيتًا».[34]
- أبوه: هو عبد الله بن عبد المطلب، أمّه «فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب».[35] كان عبد الله أحسن أولاد عبد المطلب وأعفّهم وأحبّهم إليه، وأصغرهم من بين أولاده، وهو الذبيح، الذي فداه أبوه بمئة من الإبل.[36]
- أمّه: هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، أمّها «برّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب».[37] كانت آمنة تُعد يومئذٍ أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا، وكان أبوها سيّد بني زهرة نسبًا وشرفًا.[36]
- أعمامه وعماته: هم العباس، وحمزة، والزبير، والمقوَّم، والحارث، والغيداق، وقُثم، وعبد الكعبة، وجَحْل (واسمه المغيرة)، وأبو لهب (واسمه عبد العزَّى)، وأبو طالب (واسمه عبد مناف)، وضرار.[38] وأما عماته، فهنّ عاتكة، وأميمة، وأروى، وأم حكيم (وهي البيضاء)، وبرّة، وصفيّة.[39] وأسلم منهم حمزة والعباس وصفية، واختُلف في عاتكة وأروى.[40]
- أخواله وخالاته: لم يكن لمحمد أخوال وخالات إلا «عبد يغوث بن وهب»،[41] وكان محمد يقول عن سعد بن أبي وقاص: «هذا خالي فليرني امرؤ خاله»،[42] لأن سعدًا كان من بني زهرة وكانت أم النبي أيضًا منهم.[41]
حياته قبل البعثة
ولادته
لما بلغ عبد الله بن عبد المطلب ثماني عشرة أو خمسًا وعشرين سنة،[43] زوّجه أبوه آمنة بنت وهب من عمها «وهيب بن عبد مناف» وقد كانت تعيش عنده.[44] فبنى بها عبد الله في مكة فحملت بمحمد، وكانت آمنة تحدّث أنّها حين حملت به أُتِيَت فقيل لها: «إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض فقولي: "أعيذه بالواحد من شر كل حاسد"، ثم سمّيه "محمدًا"».[45] ثم لم يلبث أبوه عبد الله حتى خرج إلى الشام للتجارة، فمرّ بالمدينة فأقام عندهم مريضًا شهرًا ثم تُوفي عن عمر خمسة وعشرين عامًا،[46] ودُفن في «دار النابغة» (وهو رجل من بني عدي بن النجار)،[44] وكانت آمنة يومئذ حاملًا بمحمد لشهرين (رأي الجمهور)،[30] تاركًا وراءه خمسة جمال، وقطعة غنم، وجارية حبشية اسمها «بركة» وكنيتها أم أيمن.[44] وُلد في مكة في شعب أبي طالب،[ا] في الدار التي صارت تُعرف بدار «ابن يوسف».[48] وتولّت ولادته «الشِّفاء» أم عبد الرحمن بن عوف.[49]
وقد كان مولده يوم الاثنين، 8 ربيع الأول،[50] أو 9 ربيع الأول[51] أو 12 ربيع الأول (المشهور عند أهل السنة)،[52] أو 17 ربيع الأول (المشهور عند الشيعة)،[53] من عام الفيل، بعدما حاول أبرهة الأشرم غزو مكة وهدم الكعبة، قيل: بعده بشهر، وقيل: بأربعين يومًا، وقيل: بخمسين يومًا (وهو المشهور)،[50] ويوافق ذلك 20 أبريل[54] أو 22 أبريل سنة 571م على الأصح.[36]
ويُروى أن محمدًا قد وُلد مختونًا مسرورًا (مقطوع السرّة)، بينما تذكر روايات أخرى أن عبد المطلب ختنه يوم سابعه وجعل له مأدبة.[55] وكانت أمّه تحدّث أنها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل ولا وحم، ولما وضعته وقع إلى الأرض مستقبل القبلة رافعًا رأسه إلى السماء،[52] مقبوضة أصابع يديه مشيرًا بالسبابة كالمسبّح بها.[56]
مِن قَبلها طِبتَ في الظِّلال وفي مستودِع حيث يُخصَف الوَرَق ثُم هبطتَ البلاَد لا بشرٌ أنت ولا مضغةٌ ولا علق بل نُطفةٌ تركب السَّفينَ وقد ألجَم نسرًا وأهله الغرق تُنقَل من صالب إلى رَحم إذا مضى عالم بدا طَبَق ثم احتوى بيتك المهيمن من خندف علياء تحتها النطق وأنتَ لمَّا وُلدتَ أشرقت الـ ـأرضُ وضاءت بنورك الأفُق فنحن في ذلك الضِّياء وفي النُّور وسبل الرشاد نخترق |
—العباس بن عبد المطلب[57] |
وأنها رأت حين ولدته كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام.[58] قالت أم عثمان بن أبي العاص: «حضرتُ ولادة رسول الله ﷺ، فرأيت البيتَ حين وضع قد امتلأ نورًا، ورأيت النجوم تدنو حتى ظننتُ أنها ستقعَ عليّ».[56] وبعدما ولدته أرسلت إلى عبد المطلب تبشّره بحفيده، ففرح به فرحًا شديدًا، ودخل به الكعبة شاكرًا الله،[36] وقال: «ليكوننّ لابني هذا شأن»،[44] واختار له اسم «محمّد» ولم تكن العرب تسمي به آنذاك، إلا ثلاثة طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد وبقرب زمانه وأنه يُبعث في تهامة فيكون ولدًا لهم.[56] وقد علمت اليهود آنذاك بولادة محمد، يقول حسان بن ثابت: «والله إني لغلام يفعة، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديًا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يا معشر يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا له: ويلك ما لك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به».[59]
نشأته
تربى محمد في بيت حليمة السعدية من هوازن، ونشأ في ديار وأرض قبيلة هذيل. وكان أوّل من أرضعته بعد رضاعه من أمّه بأسبوع ثويبة مولاة أبي لهب،[36] كان قد أعتقها، فأرضعت محمدًا أيامًا بلبن ابن لها يُقال له: «مسروح»، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وأبا سلمة المخزومي،[48] وقيل: بل أرضعتهما معه.[60] ويروي البخاري أنه «لما مات أبو لهب رآه بعض أهله بمنامه، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألقَ بعدكم (أي لم ألقَ بعدكم خيرًا) غير أني سُقيت في هذه بعتاقتي ثويبة».[61] وكانت أم أيمن تحضنه حتى كبر،[62] وكان يقول لها: «يا أُمّه»، وكان إذا نظر إليها قال: «هذه بقية أهل بيتي».[63] كان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي،[49] فجاءت نسوة من بني سعد بن بكر يطلبنَ أطفالًا يرضعنهم فكان محمد من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب لتُرضعه مع ابنها «عبد الله» في بادية بني سعد، وزوجها هو «الحارث بن عبد العزى»، وكان لهما ابنتان «أنيسة» و«حذافة» ولقبها الشيماء التي كانت تحضن محمدًا مع أمّها إذا كان عندهم.[59] وأجمع رواة السِّير أنَّ بادية بني سعد كانت تعاني إذ ذاك سنةً مجدبةً، فلما جاء محمد إلى باديتهم عادت منازل حليمة مخضرّة وأغنامها ممتلئة الضرع.[30] عاش محمد معها سنتين حتى الفطام وقد كانت حليمة تذهب به لأمه كل بضعة أشهر لزيارتها، فلما انتهت السنتين عادت به حليمة إلى أمّه لتقنعها بتمديد حضانته خوفًا من وباء بمكة وقتها ولبركة رأتها من محمد، فوافقت آمنة.[36] وعندما بلغ سن الرابعة،[64] وقيل: الخامسة،[52] حدثت له حادثة شق الصدر التي ورد في كتب السير تكرار مثيلها أكثر من مرة،[30] والتي أنكرها الشيعة،[65] وبعض المستشرقين أمثال رينولد نيكلسون،[62] فأعادته حليمة إلى أمه. روى مسلم تلك الحادثة فقال:[66]
أن رسول الله ﷺ أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه (جمعه وضم بعضه إلى بعض) ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (مرضعته) فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره. |
تُوفيت أمّه، وهو ابن ست سنوات أثناء عودتهم من زيارة لأخواله من بني عدي بن النجار، بمكان يسمى الأبواء،[49] فحضنته أم أيمن، وحملته إلى جدّه عبد المطلب ليكفله بعد ذلك ليعيش معه بين أولاده.[60] وفي السنة الثامنة من عمره، توفي جده عبد المطلب، بعد أن اختار له أبا طالب ليكفله، ويقوم بشؤونه.[67]
شبابه
لم يكن عمّه أبو طالب ذا مال وفير، فاشتغل محمد برعي الغنم وكان يأخذ عليه أجرًا[64] مساعدةً منه لعمّه،[62] قال «ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط (أجزاء من الدراهم والدنانير) لأهل مكة».[68] بينما أنكر الشيعة خبر رعيه الغنم.[65] وفي الثانية عشر من عمره،[69] سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام للتجارة، فلما نزلوا «بصرى» في الشام مرّوا على راهب اسمه «بحيرى»،[60] وكان عالمًا بالإنجيل، فجعل ينظر إلى محمد ويتأمّله، ثم قال لأبي طالب «ارجع بابن أخيك إلى بلدك واحذر عليه اليهود فوالله إن رأوه أو عرفوا منه الذي أعرف ليبغنه عنتًا، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا وما ورثنا من آبائنا».[70]
لُقّب محمد في مكة «بالأمين»،[49] فكان الناس يودعون أماناتهم عنده. كما عُرف عنه أنه لم يسجد لصنم قطّ، رغم انتشار ذلك في قريش،[7] ولم يشارك شبابهم في لهوهم ولعبهم،[64] وإنما كان يشارك كبرائهم في حربهم ومساعدتهم بعضًا بعضًا، ففي الرابعة عشر من عمره، وقيل في العشرين من عمره،[54] حدثت حرب الفجار بين كنانة وقيس عيلان، وشارك محمد مع قريش ضمن بني كنانة لأن قريش من كنانة، وأما خصومهم قيس وعيلان فكان منهم قبائل هوازن وغطفان وسليم وعدوان وفهم وغيرهم من القبائل القيسية، فشارك محمد فيها.[71] وقال النبي محمد عن حرب الفجار :«قد حضرته مع عمومتي، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت»،[72] وقال عن حرب الفجار كذلك:«كنت أنبل على أعمامي»،[73] وقال عنها أيضا:« ما سرني أني لم أشهده إنهم تعدوا على قومي عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبوا».[74] كما شارك قريشًا في «حلف الفضول» وهو ميثاق عقدته قريش في دار عبد الله بن جدعان بمكة، وتعاهدت فيه أن تحمي الضعفاء والمظلومين، قال محمد «لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفًا، لو دُعيت به في الإسلام لأجبتُ».[75]
ولمّا أصاب الكعبة سيل أدّى إلى تصدّع جدرانها، قرر أهل مكة تجديد بنائها،[64] وفي أثناء ذلك اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في موضعه، فاتفقوا على أن يضعه أول شخص يدخل عليهم، فلما دخل عليهم محمد وكان عمره خمسًا وثلاثين سنة، قالوا «هذا الأمينُ، قد رَضينا بما يقضي بيننا»، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه.[76]
زواجه بخديجة
جزء من سلسلة الإسلام عن |
الأنبياء المذكرون في القرآن |
---|
بوابة الإسلام |
كانت خديجة بنت خويلد امرأةً تاجرةً ذات شرف ومال،[49] فبلغها عن محمد ما بلغها من أمانته، فعرضت عليه أن يخرج بمالها إلى الشام متاجرًا وتعطيه أفضلَ ما كانت تعطي غيره من التجّار،[77] فقبل وخرج ومعه غلامها «ميسرة»، فقدما الشام فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريبة من صومعة راهب يُقال له «نسطور»،[78] فاطلع الراهب إلى ميسرة وقال له «ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلا نبيّ»،[79] وكان ميسرة إذا اشتد الحرّ يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره.[80] فلما أقبل عائدًا إلى مكة قدم على خديجة بمالها وقد ربحت ضعف ما كانت تربح.[77] بعد ذلك عرضت خديجة عليه الزواج بواسطة صديقتها «نفيسة بنت منيّة»،[78] فرضى بذلك، وعرض ذلك على أعمامه، فخرج معه عمّه حمزة بن عبد المطلب حتى خطبها من عمّها «عمرو بن أسد»،[81] وقيل بل خطبها له أبو طالب.[82] ثم تزوجها بعد أن أصدقها عشرين بكرة، وكان سنّه خمسًا وعشرين سنة وهي أربعين سنة،[83] وقيل بل كانت خمسًا وعشرين سنة،[84] أو ثمانية وعشرين سنة.[85] وكانت خديجة أول امرأة تزوجها محمد ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت[80] بعد ما بقيت معه خمسًا وعشرين سنة، عشرًا بعد المبعث وخمس عشرة قبله.[52] وبحسب أهل السنة فإنه قد تزوج خديجة قبل محمد وهي بِكر «عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم» (وولدت له هند) ثم مات عنها فتزوجها «أبو هالة النباش بن زرارة» (وولدت له هند وهالة).[77] بينما رفض الشيعة ذلك، وقالوا إنَّ محمدًا تزوجها بكرًا.[86]
أنجب محمد من خديجة كل أولاده إلا إبراهيم. وحين تزوج خديجة، أعتق حاضنته أم أيمن فتزوجها «عبيد بن زيد من بني الحارث»، فولدت له أيمن،[87] فصحب محمدًا حين بُعث وتوفي شهيدًا يوم حنين،[63] وقيل يوم خيبر.[87] وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لمحمد، فأعتقه وزوجه أم أيمن بعد النبوة فولدت له أسامة،[88] وتوفيت بعدما توفي محمّد بخمسة أشهر.[89]
مبشرات على قرب مبعثه
يؤمن المسلمون بأن الله لم يبعث نبيًا إلا وأخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمد وهو حيّ ليؤمننّ به وينصرنّه، ويأمر قومه بذلك،[90] وكان محمدٌ يقول «أنا دعوة إبراهيم، وكان آخر من بشّر بي عيسى بن مريم».[91] وقد ورد في كتب السير بأن الأحبار من اليهود والكهّان من النصارى ومن العرب كانوا قد تحدّثوا بأمر النبي محمد قبل مبعثه لمّا تقارب زمانه،[92] فأمّا الكهّان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع في السماء قبل أن تُحجَب عن ذلك برمي النجوم والشهب بمبعث النبي محمد،[92] وأما الأحبار من اليهود والرهبان من المسيحيين فلِما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم أن يتبعوه وينصروه إذا بعث فيهم.
قال ابن عباس «كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلمّا التقوا هُزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالت «اللهم إنا نسألك بحقّ محمد النبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم»، فكانوا إذا التَقَوا، دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بُعث النبي ﷺ كفروا به فأنزل الله ﴿وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [البقرة:89]».[93] ومما ورد في قصة إسلام سلمان الفارسي أنه قال له أحد الرهبان «قد أظلّ زمان نبي، مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى الأرض بين حرّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهديّة ولا يأكل الصّدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل».[92] وعن عامر بن ربيعة أنه قال: «سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول أنا أنتظر نبيًا من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب بن هاشم ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدّقه وأشهد أنه نبيّ، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السّلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك. قلت: هلمّ. قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل ولا بكثير الشعر ولا بقليله وليست تفارق عينيه حمرة وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإيّاك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون «هذا الدين وراءك» وينعتونه مثل ما نعته لك ويقولون «لم يبق نبي غيره»».[94]
وقد كان محمد يرى قبل بعثته أمورًا، من ذلك ما قاله «إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلّم علي قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن»،[32] وكان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال «السلام عليك يا رسول الله» يمينه وعن شماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث كذلك يرى ويسمع، حتى جاءه جبريل في غار حراء.[95]
حياته بعد البعثة إلى الهجرة
نزول الوحي
لما بلغ محمد سنَّ الأربعين، اعتاد أن يخرج إلى غار حراء (طوله 2.16 م، وعرضه 0.945 م) في جبل النور على بعد نحو ميلين من مكة،[64] وذلك في كل عام،[95] فيأخذ معه الطعام والماء ليقيم فيه شهرًا بأكمله ليتعبد ويتأمّل.[96] ويعتقد المسلمون بأنه في يوم الاثنين،[97] 17 رمضان[98] أو 24 رمضان،[99] أو 21 رمضان، الموافق 10 أغسطس سنة 610م،[100] أو 27 رجب (المشهور عند الشيعة)،[101] نزل الوحي أول مرّة على محمد وهو في غار حراء، تروي عائشة بنت أبي بكر قصة بدء الوحي، والتي أنكر الشيعة معظمَ ما جاء فيها:[102]
أول ما بدأ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه المَلك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقاريء. قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقاريء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقاريء، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥﴾ [العلق:1–5] فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زمّلوني زملّوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتُقرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرءًا تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى، فقاله له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله به على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيًا إذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله ﷺ: أوَمخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا |
كما يفسر علماء المسلمين ما ورد في سفر التثنية بالتوراة بأنه نبوءة عن قصة نزول الوحي على محمد:
ثم يُعطى الكتاب للأمي قائلاً: "الآن اقرأ هذا". فيقول: "لا أستطيع القراءة. سفر إشعيا 29: 12
وبعد تلك الحادثة، فَتَر عنه الوحي مدة، قيل أنها أربعون ليلة وقيل أقلّ من ذلك، ورجّح البوطي ما رواه البيهقي من أن المدة كانت ستةَ أشهر،[103] حتى انتهت بنزول أوائل سورة المدثر. فكان أول ما نزل من القرآن بعد أول سورة العلق، أول سورة القلم، والمدثر والمزمل والضحى والليل.[94] وعن كيفية نزول الوحي عليه، كان يقول «أحيانًا في مثل صلصلة الجرس، فهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول»، قالت عائشة: «ولقد رأيتُه ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصِم عنه، وإنَّ جبينه ليتفصَّد عرقًا».[104] وفي تلك الفترة نفسها حدثت له حادثة شق الصدر مرة ثانية.[ب]
بداية الدعوة
يعتقد المسلمون أن محمدًا بُعث للناس كافة، فقد قال عن نفسه «أنا رسولُ من أدركتُ حيًا، ومن يولد بعدي»،[91] فبعد نزول آيات سورة المدثر،[107] بدأ يدعو إلى الإسلام الكبيرَ والصغيرَ، والحر والعبد، والرجال والنساء، فكان أوّل النّاس إيمانًا به بحسب الرواية السنية زوجته خديجة بنت خويلد،[108] ثمّ ابن عمّه علي بن أبي طالب،[109] (وهو أول الناس إيمانًا بحسب الشيعة)[110] وكان صبيًا يعيش في كفالة محمد معاونةً لأبي طالب،[111] وهو يومئذٍ ابن عشر سنين[112] وقيل ثمان سنين، وقيل غير ذلك.[113] ثم أسلم زيد بن حارثة مولى محمد ومتبنّاه قبل تحريم ذلك في الإسلام، فكان أول ذكر أسلم وصلّى بعد علي بن أبي طالب،[106] وفي رواية الزهري أن زيدًا كان أول الرجال إسلامًا.[111] ثم أسلم صديقه المقرّب أبو بكر بن أبي قحافة،[106] وقيل بل أسلم قبل علي بن أبي طالب،[114] قال أبو حنيفة «بل هو أول من أسلم من الرجال، وعليًا أول من أسلم من الصبيان».[115]
ولمّا أسلم أبو بكر أظهر إسلامه فكان أول من أظهر الإسلام في مكة،[116] وجعل يدعو إلى الإسلام من وثِقَ به من قومه ممن يجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص.[114] ويُروى أنّ أبا بكر رأى رؤيا قبل إسلامه، ذلك أنه رأى القمر ينزل إلى مكة، ثم رآه قد تفرّق على جميع منازل مكة وبيوتها، فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كأنه جمع في حجره، فقصّها على بعض الكتابيين فعبرها له بأن «النبي المنتظر الذي قد أظل زمانه تتبعه وتكون أسعد الناس به».[117] وكان محمد في بداية أمره يدعو إلى الإسلام مستخفيًا حذرًا من قريش مدة ثلاث سنين.[118] وكان من أوائل ما نزل من الأحكام الأمر بالصلاة، وكانت الصلاة ركعتين بالصباح وركعتين بالعشيّ،[117] فكان محمد وأصحابه إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشِّعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم.[119] وكان المسلمون الأوائل يلتقون بمحمد سرًا، ولما بلغوا ثلاثين رجلاً وامرأةً، اختار لهم محمد «دار الأرقم بن أبي الأرقم» عند جبل الصفا ليلتقي بهم فيها لحاجات الإرشاد والتعليم.[118] وبقوا فيها شهرًا،[120] لحين ما بلغوا ما يقارب أربعين رجلاً وامرأةً، فنزل الوحي يكلف الرسول بإعلان الدعوة والجهر بها.[121]
الجهر بالدعوة
بقي محمد ثلاث سنوات يدعو الناس سرًا، ثم بدأ بالدعوة جهرًا بعدما تلقّى أمرًا من الله بإظهار دينه، عن علي بن أبي طالب أنه قال: «لما نزلت «وأنذر عشيرتك الأقربين» جمع رسول الله ﷺ قرابته، فاجتمع له ثلاثون رجلاً، فأكلوا وشربوا، فقال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي؟ فقال علي: أنا».[122] ويروي ابن عباس فيقول:[123]
لمّا أنزلت «وأنذر عشيرتك الأقربين» صعد رسول الله ﷺ على الصّفا فقال: يا معشر قريش! فقالت قريش: مالك يا محمد؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟ قالوا: نعم، أنت عندنا غير متَّهم، وما جربنا عليك كذبًا قطّ. قال: فإنّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ، يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! يا بني زهرة! إنّ الله أمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين، وإنّي لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبًا، إلا أن تقولوا لا إله إلا الله. فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله «تبت يدا أبي لهب وتب» |
لم تعادِ قريشٌ محمدًا ودعوتَه إلا بعد أن نزلت آيات في ذم الأصنام وعبادتها،[123] بينما يتمسك مفسرو القرآن وأغلب كتاب السيرة بأن المعارضة تزامنت مع بدء الدعوة الجهرية للإسلام.[124] فاشتدت قريش في معاداتها لمحمد وأصحابه، وتصدّوا لمن يدخل في الإسلام بالتعذيب والضرب والجلد والكيّ، حتى مات منهم من مات تحت التعذيب،[118] قال ابن مسعود «أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة: رسول الله ﷺ وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وسمية. فأما رسول الله ﷺ وأبو بكر فمنعهما قومهما، وأما الآخرون فأُلبسوا أدرع الحديد ثم صُهروا في الشمس وجاء أبو جهل إلى سمية فطعنها بحربة فقتلها».[125] حتى محمد قد ناله نصيب من عداوة قريش، من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص «بينما رسول الله ﷺ يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ﷺ ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله ﷺ وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم».[126] وقد كان من أشدّهم معاداة لمحمد وأصحابه أبو جهل، وأبو لهب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس بن عدي، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط،[123] حتى دعا على بعضهم قائلاً: «اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد».[127]
سلكت قريش طريق المفاوضات لثني محمد عن دعوته، فأرسلت عتبة بن ربيعة أحد ساداتهم يفاوضه، فلما سمع القرآن عاد لقريش وقال «أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه بنبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزّه عزّكم». ثم حاولوا مرات كثيرة بعرض المال عليه والزعامة، لكن محمدًا كان يرفض في كل مرة.[118] ولما كان محمد في حصانة عمّه أبي طالب، أرسلوا وفودًا لعمّه يعاتبونه مرات عديدة،[124] حتى صعُب على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له، فقال لمحمد «يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاؤوني وقالوا كذا كذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك»، فظنّ محمد أن قد بَدَا لعمّه فيه، وأنه خاذله ومُسْلمه، وضعف عن القيام معه. فقال محمد كلمته المشهورة «يا عمّ، لو وُضعت الشمس في يميني، والقمر في يساري، ما تركتُ هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه». ثم بكى محمد، فقال له أبو طالب «يا ابن أخي، إمضِ على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا».[128]
الهجرة إلى الحبشة
لما اشتد البلاء على المسلمين، أذن لهم محمد بالهجرة إلى الحبشة عند الملك أصحمة النجاشي، قائلاً لهم «إنّ بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلَم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه»، فخرج 11 رجلاً و4 نسوة،[129] على رأسهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت محمد،[130] في شهر رجب من سنة خمس من البعثة (8 ق هـ)،[131] وكان رحيل هؤلاء تسللًا في الليل، خرجوا إلى البحر وقصدوا «ميناء شعيبة»، وكانت هناك سفينتان تجاريتان أبحرتا بهم إلى الحبشة،[132] فكانت أول هجرة في الإسلام.
وفي أعقاب الهجرة إلى الحبشة، وتحديدًا في شهر رمضان، خرج النبي محمد إلى الحرم، وفيه جمع كبير من قريش، فقام فيهم، وفاجأهم بتلاوة سورة النجم، ولم يكن أولئك قد سمعوا القرآن من قبل، لأنهم كانوا مستمرين على ما تواصوا به من قولهم ﴿لَا تَسۡمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَٱلۡغَوۡاْ فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَغۡلِبُونَ﴾ [فصلت:26]،[132] حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة آية ﴿فَٱسۡجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعۡبُدُواْ۩ ٦٢﴾ [النجم:62] ثم سجد، فسجد معه كل من كان حاضرًا من قريش،[133] إلا شيخًا أخذ كفًا من حصى فرفعه إلى جبهته وقال: «يكفيني هذا»،[134] فشاع أن قريشًا قد أسلمت.[131]
ولما بلغ المسلمين في الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا، رجع ناس منهم إلى مكة، فلم يجدوا ما أُخبروا به صحيحًا، فلم يدخل أحد مكة إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من قريش،[132] ثم رجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية،[131] فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارًا أو ولدوا بها، 83 رجلاً.[130] ولما رأت قريش أنّ أصحاب محمد قد أمنوا في الحبشة، بعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص محمّلين بالهدايا للنجاشي وبطارقته علّه يخرج المسلمين من دياره، فدعى النجاشي المسلمين، وقام جعفر بن أبي طالب مدافعًا عن المسلمين، فقرأ على النجاشي بعضًا من سورة مريم، فبكى النجاشي، وبكت أساقفته حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي «إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يُكادون - يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه».[135] وقد هاجر معظم الذين هاجروا إلى الحبشة إلى المدينة المنورة، بعد أن استقر الإسلام فيها، وتأخر جعفر ومن معه إلى فتح خيبر سنة 7 هـ.[131]
حصار بني هاشم
جزء من سلسلة مقالات حول |
الإسلام |
---|
بوابة الإسلام |
لما بلغ قريشًا فعل النجاشي بالمسلمين، وأن عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب قد أسلما، وعندما رأوا الإسلام يفشو في القبائل،[136] كبُر ذلك عليهم، وأجمعوا على قتل محمد، فكلّموا بني هاشم في ذلك فرفضوا تسليمه إليهم، وأجمع بنو هاشم أمرهم على أن يُدخلوا محمدًا شِعبَهم ويمنعوه ممن أراد قتله،[137] فانحازت بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبه مع بني هاشم مسلمهم وغير مسلمهم،[138] إلا أبو لهب فإنه فارقهم وكان مع قريش.[136] ولمّا عرفت قريش ذلك، أجمعوا على حصار بني هاشم، بألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم ولا يجالسوهم، حتى يسلموا محمدًا للقتل، وكتبوا بذلك كتابًا وعلّقوه في جوف الكعبة وحالفوا بني كنانة على هذا الأمر ودخلت كنانة معهم فيه.[136] وكان الذي كتب الصحيفة «منصور بن عكرمة العبدري»، الذي قد رُوي أن النبي محمد قد دعى عليه فشُلّت يده.[139]
حُصر بنو هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة (6 ق هـ)،[137] وقُطعت عنهم الميرة والمادة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى اشتد عليهم الحصار وباتوا يأكلون أوراق الشجر، وسُمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب،[140] فأقاموا في الشعب ثلاث سنين، وقيل سنتين.[138]
سعى خمسة من رؤساء قريش في نقض الصحيفة وإنهاء الحصار، فكان أول من بدأ في ذلك الأمر هشام بن عمرو الذي كان يأتي بني هاشم وبني المطلب بالطعام إلى الشعب ليلاً، وآزره زهير بن أمية (أمه عاتكة بنت عبد المطلب)، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود. ثم قد علم محمد أمر صحيفتهم وأن الأرضة قد أكلت ما كان فيها إلا ذكر الله، وهي كلمة «باسمك اللهم»،[141] فذكر ذلك لأبي طالب، ليخرج أبو طالب قائلاً لقريش «إنّ ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني قطّ أنّ الله قد سلّط على صحيفتكم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقي فيها كل ما ذكر به الله، فإن كان ابن أخي صادقًا نزعتم عن سوء رأيكم، وان كان كاذبًا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه»، قالوا «قد أنصفتنا»، فأرسلوا إلى الصحيفة، ففتحوها فإذا هي كما قال النبي محمد. فقال أبو طالب: «علام نحبس ونحصر وقد بان الأمر؟ ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة والكعبة فقال: "اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا"».[139] وعند ذلك قام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فمزقها، ثم مشى مع من أجمعوا على نقض الصحيفة، فلبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا.[142] وكان خروجهم من الشعب في السنة العاشرة للبعثة (3 ق هـ).[139]
ولم يلبث أبو طالب حتى توفي في رمضان أو شوال من السنة العاشرة للبعثة (3 ق هـ)، وهو يومئذٍ ابن بضع وثمانين سنة،[139] وقيل: كانت وفاته في رجب بعد ستة أشهر من خروجهم من الشعب، وذلك قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنين.[143] وقد أجمع الشيعة على أنّه تُوفي مسلمًا مؤمنًا،[144] وقد جاء ذلك أيضًا في رواية عند ابن إسحاق ما يفيد أنه أسلم عند موته،[143] ولكن أهل السنة يثبتون الرواية الأصحّ عندهم بأنه تُوفي ولم يُسلم.[142] ولم تكن قريش تستطيع النيل من محمد أو أذيته حتى توفي أبو طالب، فرُوي عنه أنه قال: «ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب».[143] وبعد وفاة أبي طالب بشهر وخمسة أيام،[138] وقيل بشهرين، وقيل بثلاثة أيام،[140] توفيت زوجته خديجة بنت خويلد في رمضان من السنة العاشرة للبعثة، ودفنت في مكة ولها من العمر 65 سنة، وقيل 50، والنبي محمد إذ ذاك في الخمسين من عمره،[145] فحزن النبي محمد على فقدان عمه وزوجته حتى سمّى ذلك العام بـ عام الحزن، وبعد أيام من وفاتها، تزوج محمد من سودة بنت زمعة[137] في رمضان وقيل في شوال.[142]
الخروج إلى الطائف
بعدما اشتد الأذى من قريش على محمد وأصحابه بعد موت أبي طالب، قرر محمد الخروج إلى الطائف حيث تسكن قبيلة ثقيف يلتمس النصرة والمنعة بهم من قومه ورجاء أن يسلموا،[146] فخرج مشيًا على الأقدام[147] ومعه زيد بن حارثة، وقيل بل خرج وحده،[148] وذلك في ثلاث ليال بَقَيْن من شوال سنة عشر من البعثة (3 ق هـ)،[149] الموافق أواخر مايو سنة 619م،[147] فأقام بالطائف عشرة أيام[137] لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فلم يجيبوه، وردّوا عليه ردًا شديدًا،[150] وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أن رجلي محمد لتدميان وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى جُرح في رأسه.[149] وألجؤوه إلى حائط[ج] لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، على ثلاثة أميال من الطائف،[147] ورجع عنه سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فلما اطمأن محمد قال:[146]
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني (يلقاني بالغلظة)، أم إلى عدوّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك. لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك |
فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي، بعثوا له بعنب مع غلام لهما نصرانيّ يقال له عداس،[137] ففعل عداس، فلما سمع محمد يقول «باسم الله» ثم أكل، فنظر عداس في وجهه ثم قال «والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد» فقال له محمد «ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟» قال «نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى» فقال «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟» فقال له عداس «وما يدريك ما يونس بن متى؟» فقال «ذاك أخي كان نبيًا وأنا نبي»، فأسلم عداس،[151] وأكبّ على محمد يقبل رأسه ويديه وقدميه.[146] وقد أنكر الشيعة قصة عداس في كتبهم.[152]
فانصرف محمد من الطائف راجعًا إلى مكة وهو محزون لم يستجب له أحد من أهل البلد،[153] فلما بلغ «قرن الثعالب» بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، وهما الأخشبين، وهما جبلا مكة يحيطان بها، فرفض ذلك قائلاً: «بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيءًا».[154] ثم تقدم في طريق مكة حتى بلغ «وادي نخلة»، وأقام فيه أيامًا،[147] وخلال إقامته هناك استمع نفر من الجن إليه وهو يقرأ القرآن وهو يصلي بالليل،[146] فنزلت ﴿وَإِذۡ صَرَفۡنَاۤ إِلَيۡكَ نَفَرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ﴾ [الأحقاف:29] ثم تابع مسيره، فدخل مكةَ في جوار المطعم بن عدي، وهو ينادي «يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا، فلا يهجه أحد منكم»، حتى وصل محمد للكعبة وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي وولده محيطون به.[149]
الإسراء والمعراج
حدثت للنبي محمد رحلة الإسراء والمعراج بحسب التراث الإسلامي، بعد رحلة الطائف،[155] وقد اختُلف في تحديدها على عشرة أقوال،[156] فقيل أنها كانت ليلة 27 رجب بعد البعثة بعشر سنين (3 ق هـ)، وقيل بل كانت ليلة السبت 17 رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا (2 ق هـ)،[157] وقيل في 17 ربيع الأول قبل الهجرة بسنة (1 ق هـ)،[158] وقيل غير ذلك. وجمهور المسلمين من أهل السنة والشيعة يؤمنون بأن هذه الرحلة كانت بالروح والجسد معًا يقظةً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى،[158] وكانت قد حدثت له حادثة شق الصدر مرة ثالثة[159] قبل أن يركب البراق،[د] بصحبة جبريل. فنزل في المسجد الأقصى وربط البراق بحلقة باب المسجد، وصلّى بجميع الأنبياء إمامًا،[161] ثم عُرج به إلى فوق سبع سماوات مارًا بالأنبياء آدم، ويحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، ويوسف، وإدريس، وهارون وموسى وإبراهيم.[156] وانتهى إلى سدرة المنتهى ورأى الجنة والنار.[157] وفُرضت عليه الصلوات الخمس.[161] يقول البوصيري في قصيدة البردة:
ثم انصرف في ليلته عائدًا راكبًا البراق بصحبة جبريل، فوصل مكة قبل الصبح،[162] فلما أصبح أخبر قومه برحلته فاشتد تكذيبهم له وأذاهم، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فتمثّل له بيت المقدس حتى عاينه، فبدأ يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال. وصدّقه بكل ما قاله أبو بكر فسُمي يومئذ بالصّدّيق.[163]
بيعة العقبة الأولى والثانية
بدأ محمد يعرض نفسه في مواسم الحج على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ويسألهم أن ينصروه ويمنعوه حتى يبلغ الإسلام للناس.[164] وفي السنة الحادية عشرة من النبوة (2 ق هـ)، وبينما هو عند «العقبة» في منى، لقي ستة أشخاص «أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقُطبَة بن عامر بن حديدة وعُقبة بن عامر بن نابي وجابر بن عبد الله».[165] من الخزرج من يثرب، فدعاهم إلى الإسلام، فقال بعضهم لبعض «يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي توعدكم به يهود، فلا تسبقنّكم إليه» وقد كان اليهود يتوعدون الخزرج بقتلهم بنبي آخر الزمان. فأسلم أولئك النفر، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم.[166] فلما قدموا يثرب ذكروا لقومهم خبر النبي محمد، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من النبي محمد.[164] حتى إذا كان العام التالي، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة في منى، فبايعوا[ه] محمدًا على «بيعة النساء»،[و] فكانت بيعة العقبة الأولى.[164]
ولما انصرف القوم، بعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، فكان يُسمّى بالمقرئ، فأقام في بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام، ويصلي بهم، فأسلم على يديه سعد بن عبادة وأسيد بن حضير وهما يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، فأسلم جميع قومهما بإسلامهما،[166] ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخَطْمَة ووائل، كان فيهم قيس بن الأسلت (وكان قائدًا لهم يطيعونه) فوقف بهم عن الإسلام حتى كان سنة 5 هـ.[167] وقبل حلول موسم الحج التالي عاد مصعب بن عمير إلى مكة.
وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة (يونيو سنة 622م) اتفق عدد من المسلمين من أهل يثرب أن يأتوا مكة مع قومهم للحج قائلين «حتى متى نذر رسول الله ﷺ يطرد في جبال مكة ويخاف؟»،[168] فقدم مكة منهم سبعون رجلاً وامرأتان،[169] جرت بينهم وبين محمد اتصالات سرية أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا ليلاً في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى،[167] فلما التقوا به وكان بصحبة عمّه العباس، قالوا له «يا رسول الله نبايعك؟» فقال لهم: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة»،[168] فبايعوه رجلاً رجلاً بدءًا من أسعد بن زرارة وهو أصغرهم سنًا.[169] وعُرف ذلك الاتفاق ببيعة العقبة الثانية وقد كانت في شهر ذي الحجة قبل الهجرة إلى المدينة بثلاثة أشهر.[170] وبعد أن تمت البيعة طلب محمد أن يختاروا اثني عشر زعيمًا يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسؤولية عنهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، فتم اختيارهم في الحال، ثم عاد المبايعون إلى قومهم في مكة، وقد فشا في قريش أمر البيعة عندما صاح شيطان اسمه «أزب العقبة» بذلك، فلم يتأكدوا من الأمر حتى غادر الأوس والخزرج عائدين إلى ديارهم، فلحقت بهم قريش فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة، فمسكوه وضربوه فجاء المطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم.[166]
الهجرة إلى المدينة
«لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء»[171] |
—أنس بن مالك |
لما اشتد البلاء على المسلمين بعد بيعة العقبة الثانية، أذن محمد لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة، فجعلوا يخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة المنورة أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم قدم المسلمون أرسالاً فنزلوا على الأنصار في دورهم فآووهم ونصروهم. ولم يبقَ بمكة منهم إلا النبي محمد وأبو بكر وعلي بن أبي طالب أو مفتون محبوس أو ضعيف عن الخروج.[172]
ولما رأت قريش خروج المسلمين، خافوا خروج محمد، فاجتمعوا في دار الندوة، واتفقوا أن يأخذوا من كل قبيلة من قريش شابًا فيقتلون محمدًا فيتفرّق دمه في القبائل.[172] فأخبر جبريل محمدًا بالخبر وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة، فأمر محمد عليًا أن ينام مكانه ليؤدي الأَمانات التي عنده ثم يلحق به. واجتمع أولئك النفر عِند بابه، لكنه خرج من بين أيديهم لم يره منهم أحد، وهو يحثو على رؤوسهم التراب تاليًا آيات من سورة يس.[174] فجاء إلى أبي بكر، وكان أبو بكر قد جهز راحلتين للسفر، فأعطاها محمد لعبد الله بن أرَيْقِط، على أن يوافيهما في غار ثور بعد ثلاث ليالٍ، ويكون دليلاً لهما، فخرجا ليلة 27 صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12 سبتمبر سنة 622م،[175] وحمل أبو بكر ماله كلّه ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف،[176] فمضيا إلى غار ثور فدخلاه وضربت العنكبوت على بابه بعش، وجعلت قريش فيه حين فقدوه 100 ناقة لمن يردّه عليهم،[177] فخرجت قريش في طلبه حتى وصلوا باب الغار، فقال بعضهم «إن عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد» فانصرفوا. ومكث محمد وأبو بكر في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، حتى خرجا من الغار 1 ربيع الأول،[175] أو 4 ربيع الأول.[172] وبينما هما في الطريق، إذ عرض لهما سراقة بن مالك وهو على فرس له فدعا عليه محمد فرسخت قوائم فرسه، فقال «يا محمد أدع الله أن يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد من ورائي»، ففعل فأطلق ورجع فوجد الناس يلتمسون محمدًا فقال «ارجعوا فقد استبرأت لكم ما ههنا» فرجعوا عنه.[177]
وصل محمد قباء يوم الإثنين 8 ربيع الأول،[175] أو 12 ربيع الأول،[174] فنزل على كلثوم بن الهدم، وجاءه المسلمون يسلمون عليه، ونزل أبو بكر على خبيب بن إساف.[177] وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدّى الودائع التي كانت عند محمد للناس، حتى إذا فرغ منها لحق بمحمد فنزل معه على كلثوم بن هدم.[177] وبقي محمد وأصحابه في قباء عند بني عمرو بن عوف 4 أيام، وقد أسس مسجد قباء لهم، ثم انتقل إلى المدينة المنورة فدخلها يوم الجمعة 12 ربيع الأول،[178] سنة 1 هـ الموافق 27 سبتمبر سنة 622م،[174] وعمره يومئذ 53 سنة. ومن ذلك اليوم سُميت بمدينة الرسول ﷺ، بعدما كانت يثرب، ويعبّر عنها بالمدينة مختصرًا أو المدينة المنورة.[175]
واعترضه الأنصار يكلمونه بالنزول عليهم، فيقول لهم «إنّها مأمورة فخلّوا سبيلها»، حتى انتهت فبركت في مربد[ز] لغلامين يتيمين من بني النجار، فأمر ببناء مسجد عليه، وهو المسجد النبوي الآن، ثم جاء أبو أيوب الأنصاري فحطّ رحله فأدخله منزله فقال محمد «المرء مع رحله»، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، فكانت عنده،[172] وخرجت جواري من بني النجّار فرحات بقدومه وهنّ يضربن بالدف ينشدن: «نحن جوار من بني النجار، يا حبّذا محمد من جار».[180] وكان أول شيء يتكلم به في المدينة أن قال «يا أيّها الناس، أفشوا السّلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام».[172] وبعد أيام وصلت إليه زوجته سودة بنت زمعة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم وأسامة بن زيد وأم أيمن وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد غزوة بدر،[175] بعد أن وقع زوجها أسيرًا لدى المسلمين، ثم أُطلق سراحه شرط أن يترك زينب تهاجر للمدينة.[181]
وقد اتّخذ عمر بن الخطاب من مناسبة الهجرة بداية التاريخ الإسلامي، لكنهم أخّروا ذلك من ربيع الأول إلى محرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في محرم، إذ كانت بيعة العقبة الثانية في أثناء ذي الحجة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال محرم، فكان بداية التاريخ الإسلامي والمسمى بالتقويم الهجري.[21] بينما يرى الشيعة أن التاريخ الهجري قد وُضع في زمن محمد، وقد أرّخ به محمد نفسه أكثر من مرة.[182]
حياته في المدينة
تأسيس الدولة الإسلامية
كان أول أمر بدأ به النبي محمد بناء المسجد، فاختار له المكان الذي بركت فيه ناقته، فاشتراه من غلامين كانا يملكانه بعشرة دنانير أدّاها من مال أبي بكر بحسب أهل السنة،[184] فبُني المسجد وسُقف بجريد النخل، وجُعلت أعمدته خشب النخل، وفرشت أرضه بالرمال والحصباء،[185] وكان محمد ينقل معهم اللبن في بناءه، وجُعل له ثلاثة أبواب، وجُعل طوله من القبلة للمؤخرة 100 ذراع، وفي الجا�